جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣
أسد محمد قاسم هندي أحمر أردنيّ.. حتَّى في مماته
مظاهرة في عمَّان في العام 1950
«مات مِنْ حزنٍ على مَنْ ظلموه
لم يكن يا قارئ الشاهد عاهر!»

(أسد محمّد قاسم، الشاعر الأردنيّ، الذي وظَّف أدباء عرب بارزون شخصيَّته المميَّزة في رواياتهم، مِنْ قصيدةٍ له بعنوان «على شاهد قبري»).

أَنْظُرُ حولي الآن، فأرى عدداً متزايداً من الأحرار يتمّ إيداعهم في السجون، أو يتمّ استدعاؤهم إلى دائرة المخابرات وتهديدهم وإساءة معاملتهم. وهذا عدا عن الذين تتمّ ملاحقتهم في أرزاقهم ولقمة عيشهم، بل وفي أولادهم وأسرهم أيضاً؛ فأتساءل: إلى أين سيقود هذا؟

آليَّة (ميكانزم) القمع وكبت الحرّيّات التي عاد النظام إلى إطلاقها، بعد هدنة محدودة، سرعان ما ستفعل فعلها على الجميع.. بمَنْ فيهم النظام نفسه. فإذا استمرّ العمل على هذا النحو، سرعان، ما يهاجر كثيرون لمتابعة معارضتهم للنظام في المنافي، بينما سيختار آخرون طريق العمل تحت الأرض في أقبية العمل السرّيّ ومساراته، وستدخل البلاد في وضعٍ قاتمٍ سقيم لا أحد يعرف نهاياته التي على الأرجح لن توفِّر للنظام (وربَّما للبلاد) ما هو متاحٌ الآن مِنْ خياراتٍ آمنة للتغيير. فأنت تستطيع أنْ تطلق آليّةً ما للعمل؛ لكنَّك، بعد ذلك، لن تستطيع أنْ تتحكَّم بسيرورتها أو صيرورتها.

وهذه الأحوال، التي تتراكم حولنا الآن، تذكِّرني بمعاناة ألوف الأردنيّات والأردنيين الذين ذاقوا عذابات السجون والمنافي وتقييد الحرّيّات وقطع الأرزاق والتهميش والعزل السياسيّ؛ حيث كان النظام (ولا يزال) يتعامل مع البلاد على أنَّها مزرعة خاصّة له يرتع فيها كما يشاء وينعم على أنصاره منها بما يشاء. وأمّا الآخرون، فليسوا سوى هنود حمر.

أحد أبرز هؤلاء الذين ذاقوا عذابات المنفى ومراراته، هو أسد محمد قاسم.. الشاعر الأردنيّ الثائر الذي كان شاعر المظاهرات والمسيرات الأبرز في خمسينيّات القرن الماضي؛ فقد اضطرّ هذا الشاعر الحرّ (مثله مثل كثيرين) للعيش في المنفى بعد حملة القمع المنفلتة مِنْ كلّ عِقال التي أعقبت انقلاب الأميركيين والبريطانيين ووكلائهم على حكومة الرئيس سليمان النابلسيّ المنتخبة.. تماماً مثلما فعلوا مع حكومة محمد مصدّق في إيران، ولاحقاً مع حكومة سلفادور أللندي في تشيلي.

وفي أوائل تسعينيّات القرن الماضي – تحديداً بعد حالة الانفراج السياسيّ التي سادت في أعقاب انتفاضة نيسان 1989 المجيدة – عاد أسد محمد قاسم إلى البلاد مِنْ منفاه الطويل.

لقد ترك، خلفه، الدانوب الجميل، وبودابست الساحرة، وأسرته التي كوَّنها في المنفى (زوجته الهنغاريَّة وأبناءه منها)، وعاد وحيداً.. ما إنْ سنحت له الفرصة في أوائل التسعينيَّات؛ لا لشيء إلا «ليموت على أرض وطنه».. كما ذكر لبعض أصدقائه.

ويبدو أنَّ «أسد» قد دخل طقوس الموت مباشرة بعد عودته إلى البلاد؛ إذ عاش منعزلاً في بيت أسرته القديم في إربد، مقتصراً في علاقاته على مجموعة محدودة من أصدقائه وأقربائه. ذلك أنَّ:

«السنين الباقيات
فارغات
ككؤوس الخمر عند الفجر في رأس السنة
صامتاتٍ مُتعبات
بعيونٍ جاحظات
وثغورٍ باسمات
مثل قبر
الندامى غادروا والليل ماتْ»

بهذه الصورة الكئيبة رأى أسد ما تبقَّى له مِنْ حياته. وهذا المقطع هو جزء مِنْ قصيدة له بعنوان «لحظة مرارة» كتبها في السنة نفسها (1992) التي عاد فيها إلى الأردن.
  
على أيَّة حال، شعور أسد محمَّد قاسم بالغربة يتخطَّى حدود المكان والزمان. وممَّا عمَّق شعوره ذاك، صِدقه، وثباته على مبادئه، وتمسّكه بقيمه، في الوقت الذي اختار فيه كثيرون، ممَّن عادوا من الخارج في تلك الفترة، أن يتلوَّنوا حسب الظروف والأحوال، وأن يقفزوا، إذا ما تطلَّبت ذلك مصالحهم، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين.. مِنْ دون أن يرفَّ لهم جفن، أو تختلج لهم عضلة قلب، وشرعوا على الفور يكرزون حكمتهم الجديدة.. كما لو أنَّهم رضعوها مع حليب أمَّهاتهم، ويلعنون ويسخِّفون حكمتهم القديمة مِنْ دون تأتأة أو تلعثم.. كما لو أنَّهم كانوا على خلافٍ معها منذ وُجدوا، ويزايدون على المحافظين الجدد وأضرابهم.. كما لو أنَّهم هم من وضعوا تعاليم الرأسمالية وأفكارها في صيغتها المتوحِّشة.. لا آدم سميث وديفيد ريكاردو.

إنَّ ما كان يراه «أسد» مِنْ سوءات أمثال هؤلاء في الخارج، جعل غربته المكانيَّة مُركَّبه؛ ففي قصيدة له بعنوان «على ضفة الدانوب»، يقول:

«أيُّها الدانوب
كم تعرف أسراراً ولكنَّك صامت
كأبي الهول على سرِّك ثابت
قل ولا تقسو عليَّ
فأنا في الشط يا دونا غريبٌ ووحيد
مثل عصفور رمته العاصفة
فوق بحر من جليد
وجناحي ليس من نار فأدفئني بحرِّ الكلمات».

وتتصاعد معاناته، فيقول في قصيدة أخرى صغيرة بعنوان «لحظة مرارة»:

«تختلج الدمعة في عينه... ويودّ يود ولا يبكي
قولوا للغربة لا تحكي... عن طفل يرقص مشنوقاً بحبال
الحجّة والشك».

ثمّ يعالج آلامه بالتعايش معها، وربّما بالضغط على مواضعها مباشرة، فيقول:

«قد كنتَ غريباً وستبقى
لن تهرب مِنْ سجن الغربة
قدرٌ بجبينك منقوش والغربة ما كانت سبّه!
فاصمد إن كنت أخا مبدأ
فالمبدأ صبر ومحبّه».

(مِنْ قصيدة له بعنوان: إلى أسد محمَّد قاسم)

أمَّا غربته في المكان، فكان يعبِّر عنها (ويواجهها)، حيناً، بالحنين إلى المكان العربيّ:

«الدونا مِنْ بردى أجمل
لكنَّ العشق إذا غلغل
في القلب سنين
قد يفتر حيناً قد يذبل
لكن لن يفنى
وسيبقى بردى الأجمل
بردى الآخر والأوَّل».

وأحياناً، كان يواجهها بمحاورة رموز التراث العربي الإسلاميّ، كما هو واضح مِنْ عناوين قصائده التالية: «نداء إلى رهين المحبسين»، «قدر المتنبي»، «أبو ذر الغفاريّ»، «من وحي القرآن»، «عز الدين القسام»، «تقسيمات على وتر القرآن من وحي القرآن الكريم»، «رسالة إلى حمدان القرمطيّ»، «عمّار بن ياسر»، «رسالة إلى عمّار بن ياسر»، «رسالة إلى حسن البصريّ»، «رسالة إلى عبد الملك بن مروان»، «رسالة إلى أبي يوسف يعقوب الكنديّ»، «رسالة إلى سعيد بن جبير».

غير أنّه لم يكن ينحو في ذلك منحىً انعزاليّاً؛ أي أنَّه لم يتَّخذ ذلك النوع مِنْ ردود الفعل الذي يعبِّر في الأصل عن موقفٍ دفاعيٍّ هشٍّ مبنيٍّ على الشكّ في متانة الذات الوطنيّة والقوميَّة (شعور بالنقص)؛ بل، على الخلاف مِنْ ذلك، كان خطاب «أسد» الشعريّ يتَّسم بنبرة قويَّة، مبنيَّة على ثقةٍ كبيرةٍ، تثير الإعجاب، بالذات الوطنيَّة والقوميَّة، بل وأيضاً بالذات الفرديَّة. كما أنَّه لم يكن يرَ ذاته (بأبعادها المختلفة) إلا وهي مندمجة في إطارها العربيّ والإنسانيّ. وقد وصف نفسه، في إحدى قصائده، بأنَّه شاعرٌ «عربيُّ الدم كونيُّ المشاعر».

وهذا ما يؤكِّده بشكل ملحوظ في مجمل قصائده؛ إذ بينما هي تعبِّر عن انشغاله إلى حدٍّ كبير بهموم أمَّته من المحيط إلى الخليج، فإنَّها بالدرجة نفسها والحميَّة نفسها والحماس نفسه تعبِّر عن انشغاله أيضاً بهموم الشعوب الأخرى وقضاياها في مختلف أنحاء العالم. وممَّا يدلّ على ذلك عناوين بعض قصائده: «شبح أميركا»، «غواتيمالا»، «في طريق هانوي»، «إلى الكابتن شافعيّ (ثوريّ أيرانيّ أعدمه نظام الشاه)» وسواها.

 بالإجمال، يمكن القول إنَّ تجربة أسد محمَّد قاسم الحياتيَّة (والشعريّة)، بأبعادها وتفاصيلها المختلفة، كانت تجربة واسعة وعميقة وغنيَّة، وإنَّ حرصه على الاحتفاظ باستقامته وبمبدئيَّته وبكرامته الإنسانيَّة، رغم كلّ الظروف الصعبة التي مرَّ بها، خلق منه إنساناً مميَّزاً؛ أقرب إلى كونه شخصيَّةً روائيَّة.

ولذلك، فقد ترك أثراً عميقاً لا ينمحي في نفوس كلِّ من عرفوه؛ الأمر الذي جعل بعض الكتّاب العرب المعروفين يبنون بعض رواياتهم على شخصيَّته المميَّزة. ومِنْ أبرز هؤلاء: حنّا مينا وناديا خوست.

ولكنَّ «أسد»، في المقابل، ولأسباب تتعلَّق بطبيعة شخصيَّته نفسها المبنيَّة على الأنفة والاعتداد بالذات، لم يحظَ بالرّواج الإعلاميّ الذي يستحقّه، ولم يملك أيَّ نفوذٍ ماليَ أو سياسيٍّ أو نحو ذلك. ثروته ورصيده الوحيدان كانا ما تركه مِنْ أثرٍ طيِّب وعميق في نفوس مَنْ عرفوه وفي الذاكرة الوطنيَّة، وإرثه الأدبيّ الذي يسجِّل مواقفه وأفكاره الشجاعة والحرّة.

قال في قصيدة له بعنوان «على شاهد قبري!»:

«ها هنا يرقد شاعر
عربيُّ الدم كونيُّ المشاعر
مثل سيزيف صبوراً كان من
بالترهيب والترغيب ساخر
غضباً ثراً وإيماناً عنيداً. كان
طوفاناً من الحبّ يحيل الفحم إن شاء لماسٍ وجواهر
مات مِنْ حزنٍ على مَنْ ظلموه
لم يكن يا قارئ الشاهد عاهر!»

(بودابست - 24/4/1978)

تُرى هل هذا الكلام مكتوب على شاهد قبره الآن؟

لست أدري.

أغرب ما سمعتُ عن هذا الإنسان الكبير النبيل، يتعلَّق بظروف موته؛ إذ قيل إنَّه أوصى ابن أخته، الذي كان يزوره مِنْ حينٍ لحين للاطمئنان عليه، بأن يأتي إليه بعد يومين فيقرع باب بيته، فإذا لم يسمع منه جواباً ولم يفتح له، يستدير خلف البيت وينظر مِنْ شبّاك غرفة نوم خاله وسيجده عندئذٍ قد فارق الحياة. وهذا ما كان بالفعل بعد يومين.

الأمر الذي ذكَّرني ببعض طقوس الهنود الحمر القديمة؛ حيث كان المسنُّون منهم، الذين لم تعد حياتهم تغريهم بالبقاء، يذهبون إلى أماكن معيَّنة ويجلسون فيها ساكنين إلى أن يموتوا.

ومن المفارقات، التي صاحبت موت «أسد»، أنَّ إمام الجامع المجاور لبيته رفض الصلاة عليه؛ لأنَّه شيوعيّ! حدث هذا قبل «داعش» و«النصرة» (وأضرابهما).. لكنَّه كان نذيراً بهما.

أعرف، بالطبع، أنَّه ما كان ليهمّ أسد محمَّد قاسم (أو يعنيه) رأي شخصٍ كهذا به.. أو حتَّى ما إذا كان قد صُلِّيَ على جُثمانه أم لا؛ لكنَّ مثل هذا الموقف التكفيريّ، الحاقد وغير الإنسانيّ، يبقى، رغم ذلك، حجَّةً على صاحبه ووصمةَ عارٍ له ولما يمثّله.

النموذج الآخر، مِنْ نماذج المنفى، هو الأديب الأردنيّ الكبير الراحل غالب هلسا، الذي ظلّ طوال عقود يحلم بالعودة إلى وطنه، وما إنْ سنحت له الفرصة في أواخر العام 1989 وراح يستعدّ للعودة، حتَّى داهمه المرض فجأة ووافته المنيّة ليعود إلى البلاد في كفن. وإذا كان الرجل قد غادر إلى المنفى متسلِّلاً بصمت، فإنَّه من المفارقات أنَّ عودة جثمانه كانت صاخبة جدّاً؛ إذ غطَّتها وسائل الإعلام على نطاقٍ واسع، وشارك في استقباله حشد كبير من المثقَّفين والمهتمّين ووفدٌ حكوميٌّ رسميّ برئاسة وزير الثقافة – آنذاك – الدكتور خالد الكركيّ.

وقصّة غالب هلسا، قصّة أخرى مهمّة تستحقّ أنْ تُروى في مقامٍ خاصٍّ بها.

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال