جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣
عن حادثةٍ قديمة.. مِنْ دون مناسَبَة
الرَّفيق زكي الطوال (أبو زويا) قُبيل رحيله
انتشرتْ، في الحزب الشيوعيّ الأردنيّ، في أواسط ثمانينيّات القرن الماضي، فكرة تقول إنَّه من الضروريّ تحدِّي نظام الأحكام العرفيّة والسعي إلى كسره، بأيّ ثمن؛ فقد كان كابوساً فظيعاً (أشبه بشريعة غاب) ظلّ يخيِّم على صدور الأردنيين الأحرار لعقودٍ طويلة.

وتجدر الإشارة، هنا، إلى أنَّ نظام الأحكام العرفيّة، ذاك، فُرِضَ على البلاد بعد انقلاب الملك الراحل على حكومة سليمان النابلسيّ المنتَخَبَة1.. بدعمٍ من بريطانيا2 والولايات المتّحدة الأميركيّة. واستمرّ تطبيقه إلى أوائل تسعينيّات القرن الماضي، وهو يتسلَّل الآن بصمت ليخيّم مجدّداً على البلاد.

كان الحزب الشيوعيّ، آنذاك (في أواسط الثمانينيّات) يتصدَّر المعارضة3 الوطنيّة الأردنيّة التي كانت محظورة ومحارَبة؛ إذ كان له حضور ملموس في الأوساط الشعبيّة من العقبة إلى الرمثا.

وللدلالة على ذلك الحضور، أُشير هنا، على سبيل المثال، إلى أنَّه في بلدة «مليح» وحدها (بلدة كاتب هذه السطور، وكانت قريةً صغيرة) كان عدد أعضاء الحزب، آنذاك، 80 عضواً من الشبّان والفتيات. وهذا عدا عن المناصرين والأصدقاء والمؤيّدين.

كما كان ثمّة حضور ملموسٌ أيضاً للحزب في النقابات المهنيّة والنقابات العمّاليّة والأوساط الثقافيّة وبين طلبة الجامعات.

وفي ربيع العام 1986، لاحت فرصةٌ مواتية بوقوع العدوان الأميركيّ على ليبيا، الذي تمّ بالتحديد في 15 نيسان مِنْ ذلك العام وأعطاه الأميركيّون اسم «عمليّة ألدورادو»؛ حيث قرَّرنا أنْ ننظِّم مظاهرةً صغيرة أمام السفارة الأميركيّة في عمّان، وكانت تقع – آنذاك – في جبل عمّان بالقرب من الدوّار الثالث.. بالتحديد، مقابل فندق الأردن.

تمّ الاتِّفاق على التظاهرة والإعداد لها بتكتّم، وعُقِدَ الاجتماع الذي وضع ترتيباتها التفصيليّة في منزل رفيقنا الراحل زكي الطوال (أبو زويا) في اللويبدة. وتقرَّر في ذلك الاجتماع أنْ يشارك في التظاهرة خمسون رفيقاً فقط مِنْ أبرز كوادر الحزب، وأنْ تتمّ التظاهرة في وقت الازدحام المروريّ في الساعة الثانية بعد الظهر، وأنْ يتجمَّع المتظاهرون قبل ذلك خلف فندق الأردن ثمَّ يتوجَّهون مِنْ هناك دفعةً واحدة إلى السفارة الأميركيّة، وأنْ يتطوَّع عشرة منهم للوصول إلى السفارة وإحراق العلم الأميركيّ أمامها.. مهما كانت المخاطر التي قد تواجههم.

وبالفعل، تطوّع عشرة رفاق لذلك؛ منهم كاتب هذه السطور، والرفاق: أحمد جرادات، وعصام التلّ، وحسين أبو غربيّة، والنقابيّ العمّاليّ الرفيق الراحل عيسى خشّان (أبو محمّد) وآخرون.. آمل مِنْ أيّ رفيق شارك في ذلك الحدث ويقرأ مقالي هذا أنْ يذكِّرني بهم.

أعددنا في الليل، على عجل وبمواد بسيطة، علماً أميركيّاً رسمناه بطريقة غير متقنة. وفي الموعد المحدّد، كان الخمسون رفيقاً الذين تقرَّرت مشاركتهم في التظاهرة قد تجمّعوا خلف فندق الأردن، في حين وقف الرفيق عيسى مدانات (أبو عامر) والرفيق الراحل آمال نفَّاع (أبو خلدون) بالقرب من الدوّار الثاني لمراقبة ما يحدث.. حسب ما أُتُّفِقَ عليه أيضاً.

وعندما اكتمل جمعنا، تحرَّكنا بهدوء وقطعنا الشارع باتِّجاهيه المتعاكسين، ووقفنا أمام السفارة؛ فكانت تلك مفاجأة صاعقة؛ توقَّف السير، وأطلّ نزلاء فندق الأردن مشدوهين من الشبابيك؛ إذ لم يكن أحد يتخيّل أنَّ هناك مَنْ يجرؤ على التظاهر في عمّان في ظلّ الأحكام العرفيّة (وخصوصاً، أمام السفارة الأميركيّة).

وبدأنا بالهتاف. وهنا، أذكر الحادثة الطريفة التالية: كان الرفيق النقابيّ عيسى خشّان يقف بالقرب منِّي، وإذا بي أسمعه يهتف قائلاً: ريغان.. ريغان يا عميل!

وريغان (رونالد ريغان) كان الرئيس الأميركيّ حينها؛ فأمسكتُ برفيقي خشّان مِنْ كتفه، وقلتُ له: شو هالهتاف يا «أبو محمّد»؟! ريغان عميل لمين؟!

كانت سهولة نجاحنا مفاجئةً لنا نحن أيضاً؛ الأمر الذي أربكنا؛ فكان هذا الهتاف الغريب الذي هتفه رفيقنا الراحل إحدى علامات ارتباكنا.

والمعضلة الكبرى، التي واجهتنا بعد ذلك، كانت عندما أردنا أنْ نحرق العلم الأميركيّ؛ إذ اكتشفنا أنَّه لا توجد قدَّاحة مع أيّ واحدٍ منّا؛ وذلك لأنَّ كلّاً منّا جاء إلى التظاهرة وهو يتوقّع أنْ يتمّ اعتقاله، فجئنا جميعاً بجيوب فارغة تماماً. ورغم تخطيطنا الدقيق المسبق، لم يفطن أيٌّ منّا إلى إحضار قدَّاحة معه.

وعندئذٍ، رحنا نطوف على السيّارات المتوقِّفة في الشارع، سائلين ركّابها عن ما إذا كان أيٌّ منهم يحمل قدّاحة.. إلى أنْ تطوَّع أحدهم ومنحنا قداحته، فأحرقنا العلم بها.

وهذه الحادثة الطريفة دوَّنها صديقنا العزيز الأديب الأردنيّ الكبير الراحل مؤنس الرزَّاز، في روايته المعروفة «متاهة الأعراب في ناطحات السراب». وهي رواية تستند، بشكلٍ أساسيّ، على مفهوم يونغ النفسيّ بخصوص «اللاوعي الجمعيّ».

بعد ذلك، توجَّهنا – كما هو مقرَّر – نحو السفارة البريطانيّة، التي كانت تقع في الجهة الأخرى من الدوّار الثالث.. بالتحديد بالقرب مِنْ مطعم النيروز (كما كان يُسمَّى آنداك).

كان الملك حسين، يومها، في زيارة إلى بريطانيا، وقبل أنْ نصل إلى السفارة البريطانيّة، كانت قوّات الأمن قد أحاطت بنا وهجمتْ علينا بالهراوات.

وبما أنَّنا كنّا قد حقَّقنا مرادنا، ولم تكن لدينا نيّة للصدام مع الأمن، فقد كان مِنْ واجب كلٍّ منّا، بعد هذا، أنْ يحاول الإفلات من الاعتقال.

وبينما أنا أستعدُّ للانطلاق، رأيتُ رفيقي أحمد جرادات (أبو ناصر)، وقد أمسكه شرطيّ من الخلف وأحاط جسده الضئيل بذراعيه، فعدتُ وأمسكتُ الشرطيّ من الخلف بالطريقة نفسها وفككتُ أبا ناصر ثمَّ شرعتُ بالركض نزولاً مِنْ جبل عمّان.

وفي ما بعد، عرفنا أنَّه تمَّ اعتقال حوالي عشرة رفاق، وأنَّ أبا ناصر كان أحدهم؛ حيث تمكّنوا من اللحاق به واعتقاله.

وطوال ذلك اليوم واليوم التالي، كانت الإذاعات ووسائل الإعلام تتحدَّث باندهاش واهتمام عن التظاهرة التي مثَّلتْ محاولة جريئة لتحدِّي الأحكام العرفيّة. لم تكن الفضائيّات قد ظهرت، وكانت أهمّ وسائل الإعلام، آنذاك، إذاعة البي. بي. سي البريطانيّة، وإذاعة مونتي كارلو الفرنسيّة اللتان أوليتا ذلك الحدث أهمّيّةً كبيرة. كما اهتمَّت به أيضاً وكتبتْ عنه واحتفتْ به كثيراً أوساط المعارضة الأردنيّة في المنافي التي كانت منتشرة في بلدان عربيّة وأجنبيّة مختلفة.

التظاهرة الثانية أمام السفارة الأميركيّة في عمّان (في موقعها الحاليّ) نظَّمها المتقاعدون العسكريّون في تاريخ 14 أيلول 2011، احتجاجاً على ما كشفته وثائق ويكيليكس مِنْ تآمرٍ جرى في تلك السفارة على الأردن كوطن وعلى القضيّة الفلسطينيّة.

وقد أشار أكثر من كاتب ومعلِّق صحفيّ أردنيّ، في مقالاتهم وتقاريرهم عن تظاهرة المتقاعدين العسكريين تلك، إلى واقع أنَّها كانت الثانية مِنْ نوعها منذ تظاهرة الشيوعيين الأردنيين أمام السفارة الأميركيّة في عمّان في العام 1986.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1حُظِرَتْ الأحزاب، بعد الانقلاب، وزُجَّ بأعضائها في السجون لسنين طويلة، ولوحقوا، واضطُهِدوا، وضُيِّقَتْ عليهم سُبُل العيش (باستثناء حزب «الإخوان المسلمين»، الذي وقف إلى جانب النظام في انقلابه على الحكومة المنتخبة). ومع ذلك، واصلت الأحزاب اليساريّة والقوميّة معارضتها للنظام بالسبل السلميّة فقط؛ على خلاف ما رأيناه في مصر في السنوات الأخيرة بعد الإطاحة بسلطة «الإخوان المسلمين» هناك.

2يمكن الرجوع إلى كتاب «الأردن على الحافّة»، مِنْ تأليف السفير البريطانيّ في الأردن آنذاك السير تشارلز جونستون، للاطِّلاع على بعض أوجه التدخّل الخارجيّ والترتيبات التي تمَّت للإطاحة بحكومة النابلسيّ.

3آنذاك، لم يكن حزب «الإخوان المسلمين» في المعارضة؛ بل كان جزءاً عضويّاً من النظام.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال