جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣
خطبة الهنديّ الأحمر الأخيرة..
مهداة إلى ذكرى شهداء انتفاضة البلقاء في العام 1923: 
صايل الشهوان، وجديع أبو قاعود، وعطيّة السيوف، وفهد أحمد قبلان العسَّاف، وسالم حصيد السرحان.

وبعد،

فإنَّ مِنْ أجمل (وأقوى) ما قيل في التَّاريخ، للتَّعبير عن مأساة شعبٍ أُخِذَتْ منه بلاده وأصبح غريباً فيها.. يعيش مُذلَّاً مهاناً؛ كالأيتام على مأدبة اللئام، هي خطبة «سياتل» الزَّعيم الهنديّ الأحمر، زعيم قبائل دواميش واسكواميش والقبائل الهندية الأخرى الَّتي كانت متحالفة معها في شمال غرب الأرض الَّتي أصبح اسمها أميركا.

ألقى سياتل هذه الخطبة العظيمة المؤثِّرة جدّاً في موقفٍ تراجيديٍّ كئيبٍ.. أشدّ قسوةً مِنْ أكثر قصص الإلياذة والأوديسة كآبةً وبؤساً. وقد ألقاها أمام إسحق ستيفنز حاكم مقاطعة واشنطن في العام 1845. حيث بعد أن فرغ ستيفنز مِنْ إلقاء كلمته، الَّتي نفش فيها ريشه كما هو متوقَّع مِنْ سناتور أميركيّ، نهض سياتل ووضع إحدى يديه على رأس ستيفنز ثمّ أشار بسبَّابته بتؤدَّةٍ إلى السَّماء وشرع بإلقاء خطبته الخالدة بصوتٍ هادئٍ ونغمةٍ مؤثرة.

بيد أنَّني رأيتُ، مؤخَّراً، (وسمعتُ) هنديّاً أحمرَ آخرَ يُعيدُ إلقاء هذه الخطبة العظيمة بطريقةٍ مختلفةٍ وقد تصرَّف بنصِّها الأصليّ كثيراً. وكان ذلك على النَّحو التَّالي:

جلس الزَّعيم الهنديّ الأحمر الجديد1 على جاعدٍ مِنْ ذلك النوع الذي كان يبسطه محمّد طمّليه ليضطجع عليه ويترك تأمُّلاته تتداعى، ثمَّ عبَّأ سبيله بأصفر اللون وراح يكويه بالجمر ليكوي به جروحه2. وبعد ذلك، تناول ربابته وراح يهذُّ عليها أبياتاً مِنْ قصيدةٍ حزينة:

«يا ونتي باقصى الحشا زيدي ولوفي        وسمي خاطري ولا عني تهومي
ومن الهم زيدي علي همِّي وعيوفي        وزيدي من المر كيد الظلم والعتومي
(...)
حنّا صبيان الصّباح مكرمين الظيوفي     وحنّا رماح القنا والسَّيف والسهومي
لَسْبِد تظهر شمسنا وتلمع السيوفي        ونرد اماره ويظهر قمرنا والنجومي3»

ثمّ «أشرف المرقاب4»، مواجهاً «الرَّجل الأبيض» الَّذي كان قد وصل للتوِّ مِنْ «واشنطن»، وشرع بإلقاء خطبته، قائلاً:

لقد أخذتَ منّا بلدَنا، وأذللتَ شعبَنا، وتاجرتَ بأرضِنا وبإنسانِنا. وها أنت الآن تريد أنْ تأخذ منّا آخر ما تبقَّى لنا.

وإنَّني لأعجب مِنْك كثيراً.. فأنت تُتاجرُ بكلّ شيء!

ولكن، كيف يمكن شراء السَّماء وبيعها؟

أو شراء دفء الأرض وبيعه؟

كيف نبيع طلاقة الهواء؟

كيف نبيع حباب الماء؟

ما أغرب هذه الفكرة!

إنَّ كلَّ شبرٍ مِنْ تراب هذه البلاد مقَّدسٌ عند شعبي. قدَّسَته حادثةٌ سعيدةٌ أو حزينةٌ في الأيام الخوالي الَّتي طواها الزَّمان. وكذلك كلّ إبرة صنوبر، كلّ وادٍ، وكلّ جبلٍ، وكلّ غيضةٍ، وكلّ قطرة ندىً على النباتات البرِّيّة والصّخور الأزليَّة، وكلّ ينبوع ماء، وكلّ مدىً من الضَّباب في غياهب الأحراج، وأيضاً تلك السَّماء الَّتي طالما ذرفت دموع الرَّأفة على أبناء شعبي لقرونٍ لا تُعَدّ، ورفات أسلافنا الطَّاهرة والثَّرى الجليل الَّذي يضمّها، وكلّ حشرةٍ تمتصُّ ما تمتصُّ أو تطنّ؛ كلّه مقدَّس في ذاكرة شعبي ووجدانه ولاوعيه الجمعيّ.

وإنَّ هذه المياه الَّتي تشعّ وهي تجري في الأودية والجداول ليست مياهاً، بل هي دماء أجدادنا. لذلك، هي مقدَّسة عندنا وعند أبنائنا.

أمَّا أنت، يا من استوليت على أرضنا، هل استطعتَ أنْ تجعلها عزيزةً مكرَّمةً كما يليق بها؟

هل قدَّستَها كأنَّها مقامٌ تحجُّ إليه وتتذوَّق فيه الرِّيح المحلاَّة بأزهار المروج؟

وهل تستطيع – مثلنا – أنْ تعامل حيوانات هذه الأرض كما تعامل أخوتك؟

هل تعرف أنتَ وأبناؤك أنَّ أديم هذه الأرض الَّتي تطأونها بأقدامكم هو مِنْ رفات أجدادنا؟

هل تحترمونها مثلما نحترمها؟

نحن نحبُّها كما يحب الوليد خفقان قلب أمه.

فهل تستطيع أنْ تحبَّها كما نحبّها؟

هل تطلب مِنْ أولادك أنْ يحبّوها كما يحبُّها أولادنا؟

هل تعتني بها كما اعتنينا بها عبر القرون؟

لقد علَّمْنا أولادَنا، عبر قرونٍ طوال، أنَّ هذه الأرض أُمُّنا المقدَّسة، وأنَّ المكروه الَّذي يصيبها سوف يصيبنا، وأنَّه إذا بصق أحدهم عليها فإنَّما يبصق على نفسه.

الأزهار العطرة أخوتنا.

الحملان والغزلان والحصان والنِّسر كلّها إخوتنا.

الوديان المتشعِّبة مثل شرايين قلوبنا هي أخوتنا أيضاً.

القمم الصَّخريّة، ندى المروج، ودفء جسد الحصان، كلّها مِنْ هذه الأُسرة الواحدة الَّتي تضمّنا.

وهذا التُّراب، الَّذي تقف عليه الآن، فلتعلم إنَّه يستجيب بحبٍّ لدوس أقدام أبناء شعبي ولا يفعل هذا لأقدامكم؛ لأنَّه ممزوجٌ بدم أسلافنا، ولأنَّ أقدامنا العاريات تفهم لمسته الحانية.. أكثر ممّا تفهمها أقدامكم.

نحن جزءٌ من هذه الأرض وهي جزءٌ منّا.

وحتَّى لو طوى العدمُ آخرَ واحدٍ منّا، وأصبحت ذاكرتُنا محضَ أسطورة تتداولونها، فتظنّون أنَّكم قد أنهيتم وجودَنا تماماً، فإنَّكم سرعان ما ستكتشفون أنَّنا ما زلنا موجودين في كلِّ ذرَّةٍ مِنْ ذرَّات تراب بلادنا. وفي الليل، حينما يلفّكم صمتٌ ثقيلٌ وتخالون أنَّ الحياة قد خَلَتْ لكم وصَفتْ، فإنَّ كلَّ شيءٍ حولكم سيكون محتشداً بنا نحن أصحاب الدَّار الَّذين لا يكفّون عن حبّها..

الرِّجال الشّجعان الجسورون، والأمّهات المحبّات الحنونات، والعذارى ذوات القلوب السَّعيدة، والأطفال الصِّغار الَّذين عاشوا هنا ومرِحوا. كلّ هؤلاء، الَّذين طوى النِّسيان أسماءهم وملامحهم، لن يكفّوا عن عشق هذه القفار المستوحشة الكئيبة، وسوف يُلقُون التَّحيَّة على الأرواح الغامضة الَّتي تعود إليها في المساءات مثل الظِّلال..

أبدًا لن تهنأوا ببلادنا ما دمتم تسلبونها منّا وتُقصُوننا..

فاحذروا..

اِحذروا..

فحتَّى الموتى منّا ليسوا بلا حولٍ..

هل قلت الموتى؟!

موتانا لا يموتون.. بل هم يبدِّلون شكل وجودهم فقط!

هذه البلاد قَدَرُنا. ونحن نعرف أنَّك لا تفهمنا. إذ، في أحسن الأحوال، تستوي عندك هذه الأرض وأيّ أرضٍ أخرى. لأنَّك الغريب الَّذي تسلَّل في ظلمات الليل فنال مِنْ أرضنا كلَّ ما تمنَّى مِنْ دون أنْ يستحقّ. ولذلك، فأنت لا ترى الأرضَ أُمَّاً لك بل عدوَّاً تقهره ثم تمضي.

إنَّك تأخذ الأرض مِنْ أبنائها ولا تعبأ.

إنَّ جشعك يلتهم الأرض فلا يغادرها إلَّا صحراء..

ثمَّ تنظر إلى السَّماء فلا تراها إلاّ سلعة تُسرق أو تُباع كالأغنام والخرز.

وحيثما حللتَ أو رحلتَ، فإنَّك لا تترك شبراً مِنْ أرضٍ إلا وتبحث فيه عن رنين النُّقود وضجيج السَّماسرة.

ليس لديك مكانٌ (أو وقتٌ) لسماع حفيف أوراق الشَّجر وتفتّح الأزهار في الرَّبيع، أو لسماع طنين أجنحة الحشرات.

فماذا يتبقَّى للحياة حين يعجز الإنسان عن سماع زقزقة طائر الحسَّون، ولا يصغي في أعماق الليل لنقيق الضَّفادع؟!

نحن نفضِّل صوت الرِّيح العذب وهي تداعب أوراق الأشجار، ورائحة الرِّيح المعشَّقة بمطر الظَّهيرة أو المعطَّرة برائحة الصَّنوبر والزَّيتون.

الهواء عندنا ثمين، فهو يبثُّ روحه في نفوسنا، وكلّ ما على الأرض يتنفَّس منه. الحيوانات والأشجار والبشر كلّهم يتنفَّسون مِنْه.

وإنَّ الرِّيح، الَّتي وهبت أجدادنا أوّلَ شهيق، هي، نفسها، الَّتي استردّتْ منهم زفراتهم الأخيرة. إنَّ هذه الرِّيح هي أيضاً الَّتي تمنح أبناءنا روحَ الحياة.

 وما تهمس به الطَّبيعة في هدأة الليل هو صوت مناغاتها لنا نحن أبناءها الحقيقيين.

أنت لا تعرف هذا؛ فلكأنَّك ميِّتٌ وكلّ ما فيك يتحلَّل إلى حدّ النَّتانة.

للأرض لغتها؛ فهل تفهمها.. أنت وأبناؤك؟

لن تعرفوا الأرض ما لم تفهموا لغتها، ولن تحبّوها وتحبّكم.

الأرض لا تنتمي إلى الإنسان؛ بل الإنسان هو الَّذي ينتمي إليها. وكلّ شيءٍ على هذه الأرض مترابطٌ ترابطَ الدَّم الَّذي يوحِّدنا بها.

ولذلك، حين يزول آخرُ واحدٍ منَّا مِنْ على هذه الأرض، ولا يبقى منه إلا ظلال سحابةٍ تعبر البراري، ستظلّ هذه البراري والجبال والوديان مسكونةً بروح شعبنا.

ويا لسخرية القدر!

فأنت لم تأخذ أرضنا فقط؛ بل زيادةً على ذلك، تزعم أنَّك سيّدٌ لنا ونحن خدمٌ لك!

خدمٌ لك!

وعلى أرضنا!

إذا كان لا بدَّ مِنْ سيِّدٍ وخادمٍ على هذه الأرض، فالسَّيّد نحن، والخادم أنت.

أنت طارئٌ على هذه الأرض، وإرثك عليها مزعوم، صاغته أصابعُ ملطَّخةٌ بوسخ الدَّراهم المختَلَسَة. أما إرثنا الَّذي تحاول طمسه بكلّ ما تستطيع، فهو أرثٌ حقيقيّ عميق الجذور.. إنَّه إرث أسلافنا المجبول بعرقهم وبدموعهم ودمائهم. وهو منسوجٌ مِنْ أحلام الرِّجال الَّتي أوحى بها إليهم روح الأرض العظيم في ساعات الليل البهيم.. ومِنْ رؤى شيوخنا المنقوشة في قلوب شعبنا.

كلّ طيفٍ يتراءى في الليالي الصَّيفيَّة الرَّائقة يحكي شيئاً مِنْ ذكريات شعبنا.

النَّسَغُ الَّذي يسري في الأشجار يحمل ذكرياتنا.

وحتَّى الصُّخور الَّتي تبدو كأنَّها تتمدَّد بكماءَ مهيبةً وهي تسحّ عرقَها تحت الشَّمس إلى الوديان، كلّها تمور بذكريات الأحداث الَّتي تتَّصل بأقدار شعبي.

وما رقرقة المياه في الجداول إلا أصوات أجدادنا الموغلة في الزَّمان.

مرَّ زمنٌ كان فيه أبناء شعبي يحلمون ويطاولون بأحلامهم السَّحاب. لكن تلك الأيّام مضتْ، والأحلام الَّتي كانت تتبرعم فيها وُئدتْ بيديكم ولم تعد الآن سوى ذكرى مخنوقة بالنَّشيج.

أنا لن أطيل الوقوف على الأطلال والنَّحيب على أحلامنا الموءودة. كما أنَّني لن أضع اللوم عليك وحدك في ما جرى لنا ولبلادنا؛ فنحن أيضاً ملومون.

ولكنّ مستقبلك غامضٌ بالنِّسبة لنا.

فماذا سيحصل عندما تنتهي مِنْ بيع هذه الأرض وما فوقها وما تحتها وتفتك بكلِّ مَنْ (وما) عليها؟

إنَّ هذه هي نهاية العيش وبدء صراع البقاء.

في كلّ الأحوال، نحن وإيّاك مختلفون جدّاً؛ أحلامنا مختلفة، وأقدارنا متفارقة، وثمَّة القليل ممَّا نشترك فيه…

نعم، الليل والنَّهار لا يتساكنان. ونحن وإيّاك يبتعد كلٌّ منّا عن الآخر باستمرار، كما يفرُّ سديم الصَّباح المتقلِّب على السُّفوح مِنْ أمام شمس الصَّباح..

والآن، فإنَّك تحاول أنْ تكسو كلماتك عديمة الرُّوح والفارغة بنبرةٍ قويَّةٍ مرعدة، لكي تبدو كما لو أنَّها صوت الطَّبيعة القاهرة يخاطب شعبي مِنْ جوف العتمة الكثيفة الَّتي تتجمَّع سراعًا حولنا، تمامًا مثلما الضَّباب السَّميك الَّذي يهوِّم خارجًا من بطون الوديان.

تريد أنْ تبقينا أسرى للعتمة الحالكة؟!

إنَّ ليلك سيكون شديدَ الحلكة.. بلا نجمة أملٍ تطوف له على أفقٍ. وثمَّة ريحٌ عاتيةٌ تزمجر في المدى. ثمّة قدرٌ متجهِّمٌ يضرب على الأعقاب. وأينما حللتَ، فإنَّك ستسمع صوتَ الخطوات الواثقة المقتربة المنذرة؛ فعليك أنْ تتأهَّب للقاء قدرك المحتوم مثلما تفعل الظَّبية الجريحة وهي تصغي إلى خطو الصَّيَّاد المقترب.

الأفراد يأتون ويمضون..

تمامًا مثل أمواج البحر..

وثمَّة دمعة أخيرة،

وترنيمة موت..

ثمّ يختفون مِنْ أمام أعيننا التَّوَّاقة إلى الأبد.

ذلكم هو ترتيب الطَّبيعة حيث لا ينفع أسىً.

وربّما يكون زمانُ أفولك لمّا يَلُح بَعدُ..

لكنَّه قادمٌ..

قادمٌ مِنْ دون ريب.

وسنرى..

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)     أتركُ تحديدَ اسمِهِ للقارئ.
(2)     إشارة إلى قصيدة: «أوَّاه على التتن والتنباك أوَّاه»، التي يرد فيها قول الشاعر: «وعبِّي السبيل بأصفر اللون واملاه... واكويه بالجمرة يكوي جروحي».
(3)     مِنْ قصيدة لشاعر عجرميّ (غير معروف الاسم)، قالها في أعقاب قمع انتفاضة البلقاء على يد الإنجليز وأتباعهم.
(4)     الإحالة إلى قصيدة «واشرفت أنا المرقاب».
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال