جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

ياسر قبيلات ▣
مولوتوف، غروميكو، لافروف، ميد
تُعرف الخارجية الروسية بلغة أهلها، إختصاراً، بـالـ«ميد»؛ وهذه كلمة تتشكل من مزج أوائل الحروف في ثلاث كلمات روسية متتابعة، تعني حرفياً: «وزارة الشؤون الخارجية». وكان يلحق بهذه الكلمة، بطبيعة الحال، المختصر الحروفي الشهير الذي يشير إلى الاتحاد السوفيتي (إس. إس. إس. إر)، وفي العهد الحالي يرتبط بها اسم روسيا. وبالمحصلة، فإن الـ«ميد» بقي «ميداً»، رغم تغير الأحوال، وتبدل اسم الدولة وهويتها.


مولوتوف وغروميكو

كان الـ«ميد» دوماً، مكاناً مختلفاً، وهذا الاختلاف ليس وليد الصدفة، فقد صنعته عوامل كبيرة وجوهرية، منها عاملان صنعهما وزيران مرّا على الـ«ميد» مروراً مؤثراً؛ الأول فيتشسلاف مولوتوف لدوره في تأسيس معهد العلاقات الدولية، الذي هو إلى اليوم واحد من أركان الـ«ميد» الوطيدة. والثاني، عميد الدبلوماسية السوفيتية الشهير أندريه غروميكو الذي جعل من الانتماء إلى الخارجية «عصبية» تمثل الوطنية والانتماء إلى الدولة العظمى بطبيعتها، والقوية بقدرها؛ ومن الطريف أن الأخير (غروميكو)، عاش طفولته ونشأ في قرية كان أغلب سكانها من عائلته، بل إنَّ اسم العائلة مأخوذ من اسم تلك القرية البيلوروسية المجهولة. وهكذا، فليس غريباً أن الرجل الذي حمل اسم المكان الذي ولد وعاش فيه بين أناس ينتمي إليهم وينتمون إليه، نقل ما اعتاده في طفولته، ليكون ناموساً في مكان عمله، بحيث أضحى مزيج الأحرف الثلاثة التي تشير إلى الوزارة (ميد) شيفرة وراثية تحدد نوعاً من الإنتماء وصنفاً من الولاء.

ومن هنا، ليس غريباً أن الوزير الذي اختاره جورباتشوف من خارج الوزارة (إدوارد شيفارنادزه)، خرج منها بعد نحو أربع سنوات مستقيلاً باكياً، وكارهاً لنفسه وللدنيا من حوله، ينتابه الذعر بأن قوى «الشد العكسي» تحيط به، وبالدولة، من كل جهة وصوب، وأن انقلاباً ما لا بدّ أن يحدث. كما أنه ليس من الغريب أن ذلك «الإنقلاب» وقع فعلاً في آب 1991، بينما بقيت أوساط الخارجية السوفيتية محايدة بغموض، لا تخرج عن صمتها، في حين أن السفير الوحيد الذي أدان ذلك الإنقلاب (بوريس بانكين في تشيكوسلوفاكيا السابقة)، وأراد المنتصرون مكافأته على موقفه، فعينوه وزيراً، لم يعمر في «الخارجية» سوى شهرين ونصف، وخرج منها ليصبح نسياً منسياً.


معهد الـ«ميد»

وفي الحقيقة، فإن الخصوصية التي يتمتع بها الـ«ميد» تتضمن، كذلك، حقيقة أنه لا يستقبل المنتسبين إليه عشوائياً؛ ولا يقبلهم بترشيحات من «الحزب» (سابقاً) أو من الأجهزة (حاليّاً). بل هو يملك «مفرخته» الخاصَّة، ويعد موظفيه المستقبليين في مؤسسته التعليمية والتأهيلية المتخصِّصة (معهد العلاقات الدولية)، وينتقي رجاله المستقبليين على مهل.. من بين خريجي هذا المعهد الموهوبين والمبرزين.

بمعنى أدق، لا أحد يأتي صدفة إلى الـ«ميد»، ومن غير المتوقع أن يجد شخص ما نفسه هناك عرضاً أو نتيجة لرغبته الخاصة فقط؛ فهو بالضرورة مختار ومصطفى من بين زملائه الذين انتسبوا إلى معهد العلاقات الدولية، مدفوعين بطموح جارف بأن يدخلوا من تلك البوابة، التي تقود إلى دواخل ذلك المبنى الأكثر إثارة وغموضاً من بين الشقيقات الستالينية السبع!

وبالطبع، فإن الطموح الذي يعيشه طلاب معهد العلاقات الدولية، تتم تغذيته بحالات من الإعجاب بالـ«ميد» وأهله، الذين يصبحون مثلاً أعلى، ولا يلبث هذا الإعجاب أن يتحول مع دخولهم مبنى الخارجية إلى ولاء وانتماء كاملين لـ«مجتمع» له خصوصيته داخل المجتمع، كما له حصانته أمام الأجهزة، ويمتلك وضعه الخاص في الدولة، ويحظى بحصته الكاملة في النخبة الحاكمة.

وهنا، متسع لكلمتين حول الوزير لافروف نفسه؛ لقد تلقى تعليمه في مدرسة تتبنى التعليم المعمق للإنجليزية. وهذه تشي بخيارات عائلية لا تتوفر مصادر تؤكدها، ولكن توجهه للدراسة بمعهد العلاقات الدولية لاحقاً يزيد من منسوب احتمال القصدية في الموضوع، ناهيك عما يشي به انتقاله مباشرة بعد تخرجه للعمل في الـ«ميد»، الذي لم يعمل في حياته العملية، التي تصل لأربعين عاماً، لغيره أبداً.


أسلاف وأكلاف

استهلك الـ«ميد»، في مرحلتيه الروسية والسوفيتية، نحو خمسة عشر مفوضاً ووزيراً؛ منهم عشرة وزراء في المرحلة السوفيتية، ينقسمون إلى قسمين: الأول يتكون من «مفوضي الشعب» للشؤون الخارجية، وعددهم أربعة، هم بالترتيب: ليف تروتسكي وغريغوري تشتشيرين ومكسيم ليتفينوف وفيتشسلاف مولوتوف. أما القسم الثاني، فهو يتمثل بالوزراء، ويمثله كل من: أندريه فيشينسكي وديمتري شيبيلوف وأندريه غروميكو وإدوارد شيفاردنادزه وألكسندر بيسميرتنيخ وبوريس بانكين. مضافاً إليهم عدد آخر من وزراء الـ«ميد» في المرحلة الروسية (أربعة)، هم بالترتيب: أندريه كوزيريف ويفغيني بريماكوف وايغور ايفانوف والوزير الحالي سيرغي لافروف.

هذه التقسيمة تعكس على نحو ما ثلاثة حقب مرت على الخارجية الروسية، السوفيتية سابقاً، وهي: المفوضية، ثم الوزارة السوفيتية، ثم الوزارة الروسية، في تصاريف تعكس مراحل من عمر الدولة وتحولات نظرتها للسياسة الخارجية، حيث يبدو الاستقرار في عمل الـ«ميد»، في المرحلة الأولى التي تمتد حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، من خلال الإقامة الطويلة للوزراء، بمتوسط ثمان سنوات للوزير (هذا باستثناء مرحلة تروتسكي التي لم تزد عن سبعة أشهر).

في هذه المرحلة، كانت الدولة تتحرج الظهور كتفاً إلى كتف إلى جانب «الحزب» والثورة، فلهما صدارة المشهد، ولها الظلال والأعباء والمسؤولية، لا سيما في حالات الإخفاق. وكانت الخارجية تسير بمحاذاة حائط «الكومينتيرن»، ولغة المصالح تهمس بحذر إلى جوار الخطاب الأيديولوجي الوثوقي الذي كان يصخب في الحديث عن الثورة المستمرة (تروتسكي) وفكرة أنَّ «الثورة الشيوعية تنتصر فقط إذا كانت ثورة عالمية» وأنَّه «مع نمو الثورة، تتحول إلى ثورة عالمية للأسباب نفسها التي أدت بالحرب الإمبريالية إلى التحول إلى حرب عالمية» (بوخارين وبريوبرجينسكي)، وهو كلام ردد ما يشبهه لينين لدى سعيه لإبرام اتفاق بريست ليتوفسك 1917.

ومن الطريف أن تروتسكي الذي تولى التفاوض مع الألمان عام 1917 لتوقيع اتفاق يتيح لروسيا السوفيتية حينها الخروج من الحرب العالمية الأولى (وكان مفوض الشؤون الخارجية حينها)، ظل يماطل بعقد الاتفاق مقتنعاً أن الثورة العالمية على الأبواب وستشتعل في أوروبا. ولكن بعد تسعة أسابيع من المفاوضات بدون نتيجة، حركت ألمانيا قواتها لاجتياح روسيا، وعندها أرسل لينين إلى تروتسكي يطلب إليه قبول الشروط الألمانية وتوقيع الاتفاقية (بريست ليتوفسك) دون تأخير.


وزراء من عهدين

في المرحلة الثانية، انتقل الـ«ميد» مروراً بثلاثة من الوزراء ليصل إلى يد الوزير أندريه غروميكو، الذي تسلمه في مطلع عام 1957، ليحتفظ بموقعه فيه حتى العام 1985؛ أي عملياً، طوال المرحلة التي أخذت اسم الحرب الباردة. في حين بدأت بتسليمه الـ«ميد» لإدوارد شيفاردنادزه مرحلة انهيار الدولة السوفيتية، التي اكتملت بالعام 1991. وشهدت هذه المرحلة تعاقب ثلاث وزراء هم بيسميرتنيخ وبانكين، الذي لم يبق على رأس الوزراة سوى أقل من ثلاثة أشهر، ليعقبه مرة أخرى إدوارد شيفاردنادزه ليسجل أقل مدة في عمر وزراء الخارجية، إذ لم تستمر وزارته الثانية سوى شهر ونحو خمسة أيام؛ فقد كان الاتحاد السوفيتي انتهى.

في المرحلة الثالثة، الروسية، تعود الأمور إلى الاستقرار مع تعيين أندريه كوزيريف الذي احتفظ بالوزارة حتى العام 1996، ليخلفه يفغيني بريماكوف لمدة ثلاثة أعوام، قبل أن يعقبه إيغور ايفانوف الذي استقر في موقعه نحو ستة أعوام، هي المتوسط المعقول لسنوات الخدمة في موقع وزير الخارجية. وهو المعدل الذي تجاوزه وزير الخارجية الحالي سيرغي لافروف (حوالي اثني عشر عاماً).

لم يستقبل الـ«ميد»، في عهديه السوفيتي والروسي، الوزير نفسه مرتين، إلا في حالة واحدة هي حالة الوزير فيتشسلاف مولوتوف، الذي تمت تسميته على رأس «الخارجية» مرة تالية وقد أصبحت وزارة، في عهد خرتشوف، خلفاً لأندريه فيشينسكي - آخر وزير في المرحلة الستالينية، على أن مولوتوف سرعان ما اختلف مع خرتشوف حول تقييم إرث ستالين ودوره، فتمت الإطاحة به بعد ثلاث سنوات. أما الحالة الأخرى، فيمكن تجاهلها، وهي الفترة الثانية لإدوارد شيفاردنادزة التي بالكاد زادت عن الشهر بأيام، حيث انتهى الاتحاد السوفيتي، لكن الـ«ميد» بقي موجوداً بهوية روسية.

والفكرة الأساسية هنا تتمثل في أن القاعدة العامة أن يخلف الوزير واحد من بين رجال الصف الأول، وليس أحداً من زملائه السابقين؛ فالـ«ميد» لا يستقبل المتقاعدين، والوزير في عرفه يتقاعد وينصرف لشؤون أخرى، وهذا ما يعطي أهمية لرجال الصف الثاني في الوزارة وفي مقدمهم نواب ومساعدي الوزير، ثم السفراء المعاد استدعائهم إلى المركز، أو رأس المندوبية العامة في الأمم المتحدة (من هناك جاء إلى الوزارة: غروميكو، ولافروف.. ويالها من صدفة تمنحهما مثل هذا القاسم المشترك).

ولكن ثمة استثناءات طبعاً؛ فقد مثلت علاقة جورباتشوف بالـ«ميد» حالة اعتداء مزدوج؛ فقد جاء له بوزير من خارجه (شيفاردنادزه) ثم حاول ثم تجاوز دور الوزارة من خلال ميله إلى رسم دور خاص له، يتيح له التعاطى مع السياسة الخارجية بنفسه مباشرة، بما عرف بتقليد القمم والزيارات غير المعهودة بتعددها للخارج. وتكررت هذه الحالة مع يلتسين حينما جاء بيفغيني بريماكوف وزيراً، وهو من خارجها، إضافة إلى أنه في العرف شخصية سياسية متقاعدة.

وفي ردة فعل على «اعتداء» جورباتشوف تكرست سمعة الـ«ميد»، بوصفه طليعة الجهاز البيروقراطي العنيد، الذي يأبى التخلي عن ثقافته السوفيتية. وفي مرحلة يلتسين بات معروفاً أن الخارجية «وكر» رجال الدولة، وأنصار فكرة أن الدولة العظمى هي قدر روسيا، وأن السياسة صراع مستمر، يمكن إدارته، ولا يمكن تصفيته، وأن «البزنس» (معبود الحكام الجدد) ليس شيئاً خارج اقتصاد الدولة، وأن الاقتصاد نفسه يدار بالسياسة أيضاً، ويحتاج لها.

العلاقة المشوهة بالـ«ميد»، التي بدأت مع غورباتشوف وتعمقت مع يلتسن، تجاوزها بوتين باختياره لسييرغي لافروف وزيراً في العام 2004، حيث تم سحب الصلاحيات عن السياسة الخارجية من مجلس الأمن القومي ومكتب الخارجية في الرئاسة، وإعادتها إلى الـ«ميد»، الذي أضحى المسؤوال الحصري عن وضع مبادئها وتنفيذها، وتحويل سلطة الجهات الأخرى ذات العلاقة إلى صلاحيات بتقديم المشورة والتنسيب غير الملزم.


عابرو حكومات ولغات

وزراء الخارجية في العهدين، السوفيتي والروسي على حد سواء، هم بالعادة وزراء عابرون للحكومات؛ اللهم فقط في تلك المراحل التي تتسم بعدم الاستقرار نتيجة تحولات داخلية مثل السنوات الأولى للثورة البلشفية ومرحلة انهيار الاتحاد السوفيتي أو في ظروف الأوضاع الدولية المستجدة كنتائج الحرب العالمية الثانية. الأمر الذي يشي بالوضع الخاص الذي يتمتع به وزراء الخارجية.

وأهل الـ«ميد» هم بالعادة ثلاثيو اللسان (اللغات)، فكل واحد منهم يتأهل بلغتين إلى جانب الروسية؛ واحدة يخدم بها، وفي بلدانها. وأخرى ثقافة عامة واحتياطية ضرورية. وبما أن اللغة تمثل ثقافة، تتعزز بالغالب في المراحل المبكرة بخدمة في البلدان الناطقة بها، فإن الـ«ميد» يحفل بـ«القوميات» ويقصد بذلك مجموعات الموظفين من الناطقين بلغة معينة ومن أهل الخدمة الدبلوماسية في بلدان تلك اللغة.

وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى أن حصة اللغة العربية ليست قليلة في الـ«ميد»، ويقال إنَّه لا لغة تنافسها في أوساط المراتب المتوسطة سوى الإنجليزية، بينما يسجل المستعربون حضوراً بارزاً ومؤثراً، وتروى حكايات عن نفوذهم وتأثيرهم. ومرة أخرى يقال إنَّه لا أحد ينافسهم في ذلك سوى الناطقين بالإنجليزية.

يبلغ عدد مساعدي وزير الخارجية الحاليين تسعة مساعدين، سبعة منهم من خريجي معهد العلاقات الدولية التابع لوزارة الخارجية، بينما اثنان فقط من خريجي معهد الدراسات الآسيوية والإفريقية ومعهد اللغات الشرقية التابعين لجامعة موسكو، التي تحتل بدورها واحدة من «الشقيقات الستالينية السبع»، بينما المعهدان هما على نحو أو آخر معهدان شقيقان.

الوزير لافروف نفسه لا يتحدث العربية، وهو من الناطقين بالإنجليزية، ولكن اثنان من أبرز مساعديه يتحدثانها بطلاقة (غاتيلوف وبوغدانوف)، وهما كذلك من أصحاب الخدمة الدبلوماسية في عالمنا العربي.

عموماً، فإن وضع الـ«ميد» الخاص، والمستعاد في عهد بوتين، يحتم النظر إليه دوماً، ومتابعة أهله على وجه التحديد، حينما يتعلق الأمر بسياسة روسيا الخارجية. 
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال