جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

فالنتين كاتاسانوف *

ترجمة: ياسر قبيلات**

النظام المصرفيّ الأوروبِّيّ يترنَّح
المقرّ العامّ لدوتشه بنك في فرانكفورت
إذا كان الحدث الرئيسي الذي شغل العالم في حزيران/يونيو الماضي هو الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي، فإن الحدث الرئيسي في أوائل شهر تمّوز/يوليو يتمثَّل، في المقام الأول، بالأخبار المتعلقة بـ«دويتشه بنك».

«دويتشه بنك»، واحد من أقدم مؤسسات الائتمان في ألمانيا. صمد البنك عبر حربين عالميتين، وأصبح واحداً من أكبر المؤسسات المصرفية في أوروبا والعالم. وفي بعض السنوات، احتل «دويتشه بنك» المرتبة الأولى في تصنيفات البنوك الأوروبية، ولوقت طويل دخل في قائمة البنوك العشرة الأولى في العالم. وبات «دويتشه بنك» هيكلاً عابراً للحدود، بامتلاكه 28 مليوناً من العملاء، و2814 فرعاً، منها 969 خارج ألمانيا، وموزعة في جميع أنحاء العالم. ويمتد نشاطه الدولي، تمويلاً وفروعاً ومكاتب تمثيلية في 76 بلداً في جميع أنحاء العالم.

وفي ما يلي بعض مؤشرات «دويتشه بنك» خلال العام الماضي (باليورو): الأصول – 1.63 تريليون. الأسهم – 62.7 مليار؛ العوائد (الدخل الإجمالي) – 33.5 مليار. عدد العاملين في نهاية العام الماضي – 101 ألفاً. وأسوأ ما واجهه البنك في العام الماضي هو مؤشر النتائج المالية، فبدلاً من الأرباح المعتادة التي تقاس بمليارات اليورو، تلقى «دويتشه بنك» خسارة صافية قدرها 6.77 مليار. وكانت رسملة البنك منخفضة على نحو غير مسبوق - حوالي 20 مليار.. وعلى سبيل المقارنة: القيمة السوقية للبنك البريطاني «إتش إس بي سي»، الذي يوازي «دويتشه بنك» من حيث الأصول وغيرها من المؤشرات، كانت في العام الماضي في حدود 160 - 190 مليار.. فإذا كان سعر سهم «دويتشه بنك» في منتصف ابريل من العام الماضي بلغ حوالي 33 يورو، فإن سعره انخفض في أوائل يوليو من العام الحالي الى مستوى قياسي - 11.35 يورو. وهذا الهبوط بثلاثة أضعاف خلال عام، منها ضعفين منذ بداية العام الحالي.

النظام المصرفي يحتضر

ومن الإنصاف القول إن هذا الوضع لا يقتصر على «دويتشه بنك»، فالنظام المصرفي الأوربي بكامله يترنح. وفي أي لحظة يمكن أن يحدث انهيار في هذه أو تلك المنظومة المؤسسة للبنك، ما يمكن أن يثير أزمة مصرفية في جميع أنحاء القارة الأوروبية. هذا في حين تصمت بروكسل حول الوضع الحقيقي في النظام المصرفي في الاتحاد الأوروبي وفي منطقة اليورو، بينما يواصل البنك المركزي الأوروبي اصدار تقارير متفائلة تؤكد أن أوروبا تبلي بلاء حسناً في عملية تشكيل نظام رقابة مصرفي موحد، يضمن إبقاء الوضع تحت السيطرة. ويشمل نطاق العمل الرقابي المصرفي في عموم أوروبا حالياً نحو 130 بنكاً. كما تتشكل صناديق أوروبية مركزية لإنقاذ البنوك «الغارقة»، ولكن هذه الصناديق لا تزال بعد موجودة على الورق فقط، لأن ألمانيا تعارض إنشائها. ألمانيا لا تريد أن تلعب مرة أخرى دور بقرة أوروبا الحلوب.

في المقابل، يعارض البنك المركزي الأوروبي تعزيز النظام المصرفي في أوروبا «بازل 3» معايير كفاية رأس المال جديدة بما يتعلق بالمؤسسات الائتمانية، المصممة من قبل بنك التسويات الدولي، وذلك لأن معظم البنوك الأوروبية ليست قادرة على اتخاذ هذه الإجراءات. وفي حال تطبيقها، سيكون على البنك المركزي الأوروبي، كمؤسسة رقابة مصرفية، سحب تراخيص هذه البنوك أو إعلان إفلاسها.

ضربات ضد «دويتشه بنك»

تأثيرات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي انعكست في انخفاض حاد في تداولات أسهم البنوك الأوروبية في الأسواق، بما في ذلك البنوك من العيار الثقيل مثل بنك «باركليز» البريطاني، و«رويال بنك أوف سكوتلاند» و«إتش إس بي سي»، والبنوك السويسرية «كريديت سويس» وبنك «يو بي إس»، وبنك «بي.ان.بي باريباس» الفرنسي، وبنك «سانتاندر» الاسباني، والبنك الإيطالي «يونيكريديت» وغيرها الكثير. قائمة ضحايا الخروج البريطاني شملت كذلك «دويتشه بنك».

ومع ذلك، كانت هناك أيضاً ضربات أخرى تلقاها «دويتشه بنك»، وتجنبتها البنوك الأوروبية الرائدة الأخرى.

الضربة الأولى جاءت على وقع فشل فرع «دويتشه بنك» في الولايات المتحدة في «اختبارات التحمل» التي أجراها المنظمون المصرفيون الأميركيون (الاحتياطي الفيدرالي). هذا النوع من الاختبارات، مطلوبة على نحو إلزامي بالنسبة للبنوك الأميركية الرائدة، وتجري على أساس طوعي بالنسبة للمؤسسات التابعة للبنوك الأجنبية. واجتازت جميع البنوك الأميركية الاختبار، ولكن «دويتشه بنك» مني بفشل ذريع. وهذا للسنة الثانية على التوالي.

الضربة الثانية جاءت من خلال تقييمات صندوق النقد الدولي. في الرابع من حزيران/يونيو الماضي، رددت وسائل الإعلام الأنباء المثيرة: صندوق النقد الدولي قيم «دويتشه بنك» بوصفه المؤسسة المصرفية الأكثر اشتمالاً على المخاطر، مؤكداً أن لدى البنك القدرة على التسبب في أضرار كبيرة للنظام المالي على المستوى العالمي. المصدر الرئيسي لعدم استقرار «دويتشه بنك»، وفقاً لصندوق النقد الدولي، هو تلك الكمية الكبيرة من الأصول «السامة». واحتل المرتبة الثانية وراء «دويتشه بنك» في هذه القائمة سيئة السمعة، التي يحددها صندوق النقد الدولي، بنكا «اتش اس بي سي» و«كريديت سويس». ونلاحظ، هنا، أن صندوق النقد الدولي لعب هنا دوراً غير اعتيادي بالنسبة له. عادة، ما يوفر الصندوق تقديرات منفردة للبلدان والأسواق المالية. التقديرات الدقيقة المنفردة للبنوك والمؤسسات المالية هي من اختصاص البنوك المركزية وغيرها من هيئات الإشراف والرقابة المالية الأخرى.

الضربة الثالثة، التي تلقاها «دويتشه بنك»، جاءت من خلال البيان الذي أدلى به رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو رينزي، في ردة فعل على الاتهامات التي وجَّها الشركاء الأوروبيون بحق إيطاليا، التي لطالما كانت الحلقة الأضعف في النظام المصرفي في أوروبا. ولكن السبب في اصدار هذا البيان كان الاعلان الأوروبي عن مؤشرات القروض "المتعسرة" في الميزانيات العمومية للبنوك الإيطالية. وهنا قال ماتيو رينزي منتقداً: المشكلة الرئيسية في أوروبا ليست البنوك الإيطالية، بل «دويتشه بنك».

لقد أثار رئيس الوزراء الإيطالي القضية، التي يتجنب السياسيون والمصرفيون والصحفيون إثارتها. إنها مسألة الأدوات المالية المشتقة.

بالذات، الإصدارات غير المنضبطة من الأدوات المالية المشتقة، وعدم وجود رقابة مالية على أسواقها، تسببت إلى حد كبير في الأزمة المالية العالمية من 2007-2009. وكشف ماتيو رينزي سر الأدوات المالية المشتقة، الذي هو بالمناسبة ليس سراً إلا بالنسبة للناس البعيدين عن عالم المال. وأشار إلى أن الصعوبات التي تواجهها البنوك الايطالية بسبب الديون المعدومة، ليست شيئاً بالمقارنة مع مشاكل بعض المؤسسات المالية الأوروبية ذات العلاقة بالأدوات المالية المشتقة. ومن أجل توجيه ضربة نهائية، قال رئيس الوزراء الإيطالي، إن أكبر حامل للأدوات المالية المشتقة في أوروبا هو «دويتشه بنك». أنه لأمر فظيع أن أقول إن رصيد «دويتشه بنك»، قبل بضع سنوات، من هذه الصكوك بلغ 75 تريليون يورو. أي حوالي 20 مرة أكثر من الناتج القومي الإجمالي السنوي لألمانيا. اليوم، انخفض هذا الرقم قليلاً إلى 40 – 45 تريليون يورو، ولكن أي من هذه الأرقام كفيلة ليس بنسف أوروبا فحسب، بل والعالم كله.

علقت وسائل الإعلام في العالم بطرق مختلفة على هذه الضربات، التي تلقاها البنك الألماني «البطل السلبي». دون الخوض في التفاصيل، وفي معظم وسائل الإعلام تم تظهير مصرفيّي «دويتشه بنك» باعتبارهم طامحين، يتجاهلون قواعد اللعبة، ومتورطين بالفساد بأحجام هائلة، ومتجاهلين للعقوبات الاقتصادية (ضد إيران، روسيا، وما إلى ذلك)، وغاسلي أموال قذرة، وسادة في التلاعب بالحسابات وإخفاء الحقيقية منها، ومتلاعبين في سعر الذهب.. الخ.

بعض الاستنتاجات

الوقائع المتصلة بـ«دويتشه بنك»، من الصعب دحضها. هذه ليست أول فضيحة مصرفية خلال السنوات الأخيرة. لذلك، أود أن أعطي تقييماً شاملاً لما يحدث:

1.     الغسيل القذر لـ«دويتشه بنك»، الذي عرضته وسائل الإعلام العالمية للجمهور، لا يختلف كثيراً عن «غسيل» البنوك العالمية الأخرى. ولكن «دويتشه بنك» مثير للاهتمام من حيث أنَّه يقدم إمكانية لفهم على ماذا وكيف يعيش العالم المصرفي بأكمله. خصوصاً في «وول ستريت» ولندن، والبنوك القارية الأوروبية المقربة من البنك المركزي الأوروبي.

2.     اختيار وسائل الإعلام «دويتشه بنك» على وجه التحديد للعب دور «البطل السلبي» في عالم الخدمات المصرفية، يعكس الصراع الذي يدور وراء كواليس سادة المال. وهنا نلاحظ أن البنوك الأوروبية في السنوات الأخيرة، أكثر عرضة بكثير للهجمات من البنوك الأميركية. لذا، بعد انتهاء الأزمة المالية العالمية فإن البنوك العالمية الرائدة دفعت غرامات وتعويضات بقيمة يتجاوز تقديرها 200 مليار دولار. وحصة الأسد من هذه القيمة دفعتها البنوك الأوروبية، ويرجع ذلك أساساً لأن هذه المستحقات حددتها لجنة من المنظمين المصرفيين الأميركيين، وعلى رأسهم لجنة الأوراق المالية، وزارة العدل، ومجلس الاحتياطي الاتحادي، وما إلى ذلك.

3.     الضربات التي تلقاها «دويتشه بنك»، جاءت على الأرجح بسبب أمرين رئيسيين: الأول، الانتقادات الحادة التي وجهتها في الأشهر الأخيرة إدارة البنك إلى سياسة البنك المركزي الأوروبي، لا سيما مطالبة «دويتشه بنك» بالحد من البرنامج الأوروبي للتيسير الكمي وانتشال أسعار فائدة البنك المركزي الأوروبي من المنطقة السالبة؛ الثاني، رغبة إيطاليا في الحصول على مساعدة من ألمانيا (عبر الصناديق الأوروبية) لإنقاذ البنوك الايطالية من الغرق.

4.     لجأت بنوك «وول ستريت»، في الصراع مع «الزملاء» الأوروبيين، لجأت للمرة الأولى إلى طلب مساعدة صندوق النقد الدولي، الذي لا يزال تحت سيطرة الولايات المتحدة. ويمكن توقع أن استخدام صندوق النقد الدولي في هذه الغاية سوف يتوسع.

5.     العملية، التي تم تنفيذها ضد «دويتشه بنك» في غاية الخطورة. بنتيجتها يمكن للتوازن الهش في النظام المصرفي في أوروبا أن يتحطم في أي لحظة. العمليات الخاصة، مثل تلك التي نظمت ضد «دويتشه بنك»، يمكن أن تؤدي إلى الفوضى المصرفية في عموم أوروبا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 * فالنتين كاتاسانوف: عضو أكاديميَّة العلوم الاقتصاديَّة والتجاريَّة الروسيَّة. مستشار سابق في الأمم المتّحدة (إدارة القضايا الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة الدوليَّة). عضو الهيئة الاستشاريَّة للبنك الأوروبيّ للإنشاء والتعمير. خبير في الاقتصاد وتحرّكات رؤوس الأموال الدوليَّة، وتمويل المشاريع، وإدارة الاستثمار. مؤلِّف للعديد من الدراسات.


** سوفييتيّ عتيق.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال