جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

ياسر قبيلات ▣ 
مسؤول روسيّ يتأمّل أوروبّا المصابة «بعقدة بروكسل» يشكو مسؤولٌ روسيّ، خلال جلسة تصفها بعض الكتابات الروسيّة بـ«المريحة بين أصدقاء مقرّبين»، فيقول: لقد أمضينا سنواتٍ نعتقد أنَّ العمل على تحرير أوروبّا مِنْ تبعيَّتها للولايات المتّحدة هي واحدة مِنْ أولى أولويّاتنا. وكنّا نتوقّع أنْ يقاوم الأميركيّون مسعانا بشدّة. وهم قاومونا بالفعل، وبضراوة. وهذا مفهوم؛ الولايات المتّحدة تستطيع أنْ تقبل بفكرة أنْ يختفي المحيط الأطلسيّ من الوجود، وأنْ يتلاشى معه ذلك البعد الاستراتيجيّ الذي يفصلها، بمسافة أمان، عن العالم. ولكنّها ليست في وارد أنْ تقبل باحتمال أنْ تكفّ أوروبّا عن أنْ تكون حاجزاً استراتيجيّاً يفصلها عن روسيا.

ويتابع المسؤول المهموم، الذي يتمّ دائماً اغفال ذكر اسمه، مضيفاً: ولكن ما اكتشفناه خلال السنوات الثلاث الماضية خالف كل حساباتنا؛ لقد اكتشفنا أنَّ تحرير الولايات المتّحدة مِنْ نفسها، على استحالته، أسهل مئة مرّة مِنْ محاولة تحرير أوروبّا مِنْ إحساسها بالحاجة إلى تبعيّتها للولايات المتّحدة!

وتذكر الكتابات الروسيّة القليلة، التي تشير بعبارات مقتضبة متفرّقة، إلى هذه «الجلسة المريحة مع أصدقاء مقرّبين»، أنَّ المسؤول الروسيّ وصف علاقة أوروبّا بالولايات المتّحدة بـ«الإدمان اللا واعي». ومع نوبة من المزاح انتابته، قال: 

- يمكنني أنْ أتحدّث هنا عن شيء أحبّ أن أسمّيه «عقدة بروكسيل»!

فانبرى مِنْ بين «الأصدقاء المقرّبين»، مخرجٌ سينمائيّ قال بينما هو يطلق ضحكته الجهوريّة الرنّانة: 

- «عقدة بروكسيل»..! هل هذا شيء يشبه أو له علاقة بـ«عقدة ستوكهولم»!؟

فردّ المسؤول الروسيّ: 

- أحسنت. كان يجدر بي أنْ أشير إلى ذلك منذ البداية.

- على هذا، أوروبّا تحتاج إلى علاج وليس إلى تحرير..

- بل لن تشفى أبداً مِنْ هوسها بتقمّص دور الضحيّة!


تفكيك عقدة 

لا أعرف إنْ كان هذا المسؤول سيعلّق على لقاءات ميونخ واجتماعات الناتو في بروكسل. ولا أدري إنْ كان قد علّق فعلاً. فإنا على أيّة حال لا أعرف، على وجه اليقين، مَنْ هو بالضبط، وإن كنت أظنّ أنّني أستطيع أنْ أخمّن مَنْ يكون استناداً إلى هويّة الأشخاص الذين جاءوا على ذكر تلك «الجلسة المريحة بين أصدقاء مقرّبين». 

ولكنّني، على كلّ حال، بروح القارئ للنصّ وما يحيط به، وبما يتوفّر مِنْ إلمام بمسارات العقل الروسيّ، أستطيع براحة أنْ أنوب عنه بتقديم تقكيك بسيط للعقدة التي تتداولها نشرات الأخبار..

ولنبدأ نقطة نقطة: 

- «جنيف 3» لم يفشل ولم ينجح. ولكنّه بالضبط حقّق الأهداف «الروسيّة» الواقعيّة المتوقّعة. واستخدام أقواس التنصيص هنا لتأطير الصفة الروسية، يقتضيه واقع أنَّ هناك مستفيد سوريّ أساسيّ مِنْ تحقّق تلك الأهداف («الروسيّة»). ومِنْ أبرزها: إحاطة الزخم العسكريّ المحليّ بزخم سياسيّ دوليّ، وإعادة تعيين واشنطن مرجعيّة نهائيّة لأطراف عربيّة واقليميّة تعيش «أوهام فائض القوّة والاستقلاليّة» عن حليفها الأكبر، لا سيّما مع استفحال الظاهرة العالميّة التي تدفع باتّجاه «عولمة الاقتصاد» و«أقلمة السياسة». وتجميع هذه الأطراف والعواصم المريضة بأوهامها وراء الموقف الأميركيّ.

- و«فشل» «جنيف 3» أحيا، كما هو متوقّع، رغبة دوليّة مهووسة بالانقلاب على «مرحلة لافروف» القائمة، في جزء منها، على تقييد السياسات بسلاسل متتابعة من المحادثات والمفاوضات والمواعيد والآجال. وعلينا أنْ نلاحظ هنا أنَّ هذا الهوس ليس نزعة جديدة، بل هو خصيصة تتّصف بها حصراً قوى إقليميّة مندفعة، ودول أوروبيّة مخذولة مِنْ أميركا، التي يبدو أنّها لا تمانع، كما يجب، محاولات تحريرها مِنْ نفسها.

- ردّ الفعل التلقائيّ المتوقّع على «فشل» «جنيف 3» جاء باندفاعة إقليميّة محمولة على أفكار تركيّة تبحث عن غطاء سياسيّ وتمويل ولوجستيّات وضمانات بمكاسب. وتقوم هذه الأفكار على عرض الاستعداد للتدخّل العسكريّ البريّ الإقليميّ المتعدّد في سوريا لتجاوز عقدة «الانعزاليّة الأوباميّة» والتزام الرئيس الأميركيّ بعدم شنّ حروب خارجيّة، والتخفيض في الموازنة العسكريّة الأميركيّة. 

- هذه الأفكار التركيّة صدحت ابتداءً بلسان اردوغان في عاصمة عربيّة، وتمّ تدعيمها بأرقام الهجرة واللجوء، التي كلّفت لغاية الآن ما يكفي لشنّ حرب، بينما من المتوقّع أنْ تكلّف أضعافاً لاحقاً. وهذه كلف يتحمّلها «أصدقاء سوريا»، في حين لم يخسر «نظام الأسد» شيئاً، سوى أنَّ معاناته من المجموعات المسلّحة أصبحت همّاً أوروبيّاً كذلك. وهذه مفارقة وجدت صداها في الرياض.

- من الملفت والمهمّ أنَّ أجهزة الإستخبارات الغربيّة قبل الروسيّة، حذّرت من اندفاعة التدخّل البريّ الإقليميّ. وفي حالة جهاز المخابرات الألمانيّ فإن التحذير جاء، على غير العادة، علنيّاً، مِنْ خلال تقرير تقصّدت إعلانه وإذاعته في وسائل الإعلام.

- ويجب أنْ نلاحظ أنَّ دولاً أخرى غير مهتمة حقّاً، ولكنّها ترتبط بعلاقات تحالفيّة إقليميّة قويّة، تفرض عليها تأييد ومؤازرة دعوة التدخّل البريّ الإقليميّ، لجأت إلى صيغة «مبتكرة» تقيّد التزامها بهذا الإعلان، فاشترطت أنْ يكون هذا التدخّل البريّ بقيادة الولايات المتّحدة. وهنا يجب أنْ لا يخوننا ذكاؤنا فنعتقد أنَّ الباعث هو الثقة بـ«العسكريّة» الأميركيّة. لا.. إنّما هو اشتراط الموافقة الأميركية مِنْ دول تعرف أنَّ الولايات المتّحدة لديها حدودها، وتحفّظاتها الخاصّة على قفز بعض الدول الإقليميّة مِنْ حسابات النفط والاستهلاك إلى تنكّب غمار الحروب وتجييش الجيوش.

- يجدر بنا أنْ نلاحظ أنَّ السعوديّة، التي كانت صاحبة الإعلان الأوّل عن استعدادها إلى التدخّل بريّاً، اُضطرّت هي الأخرى أنْ تعلن على لسان رجل من الدرجة الثانية في وفدها إلى بروكسيل أنَّ إعلان استعدادها للتدخّل «الذي لا رجوع عنه» مشروط بـ«المشاركة الأميركيّة». واشتراط «المشاركة الأميركيّة» في القاموس السياسيّ خلال الأسبوعين الماضيين، تعني بالعربيّة الفصحى «الموافقة الأميركيّة».

- وعلينا أنْ نلاحظ أنَّ الرياض أبرزت هذا الاشتراط متأخّراً، خلال مشاركتها في اجتماع الناتو. وجاء في واقع الأمر في هيئة استدراك يؤكّد أنَّ الإندفاعة السعوديّة، لن تتجاوز الموقف الأميركيّ. بمعنى أنَّ الاندفاعة السعوديّة التي انتعشت بترحيبات أميركيّة مبهمة، وبدعوة لحضور اجتماعات الناتو، فوجئت في الإجتماع بمساءلتها عن إعلاناتها الانفراديّة المفاجئة والمتكرّرة، بدءاً مِنْ حرب اليمن، ومروراً بإعلان «التحالف الاسلاميّ»، وصولاً إلى إعلان الاستعداد إلى التدخّل البريّ في سوريا. مع غيابٍ تامٍّ للحفاوة الغربيّة المتوقّعة التي يُفترض أنْ يؤمّنها عرض التدخّل البريّ الإقليميّ السخيّ.

- يمكننا كذلك أنْ نلاحظ أنَّ الموقف الأميركيّ الجديد بعد اجتماع بروكسيل، الذي رحّب بالإعلان السعوديّ حصره في خانة «توسيع مساهمتها الجويّة في التحالف الدوليّ ضدّ تنظيم داعش» وبـ«قوّات خاصّة»، وتجاهل ذكر أيّ إشارة إلى التدخّل البريّ الإقليميّ. أي أنّ الحديث يجري عن عمليّات أمنيّة ضدّ الإرهاب، لا عن خطوات عسكريّة بآثار سياسيّة.

- وفي بلاغ أميركيّ لاحقٍ على بروكسيل، برزت صيغة أميركيّة أكثر دقّة تحمل أبعاداً روسيّة، تقول إنَّ أيّ طرف يرغب يتجاوز هذه الحدود، عليه أنْ يدرك مسبقاً أنَّ ذلك يخرج عن إطار عمليّات التحالف الدوليّ ضدّ تنظيم داعش والتفاهمات الدوليّة حيال سوريا، ومنها التفاهمات الأميركيّة الروسيّة. وبالتالي، فإنَّ الحلف والولايات المتّحدة لن يكونا مقيّدين بأيّ التزام تجاه مثل هذه الخطوات.

- وهنا، لا حاجة إلى الإشارة إلى التحذيرات الروسيّة بعواقب التدخّل البريّ، ولا التنويهات الروسيّة إلى «حرب عالميّة». ولكن لكي نعود إلى سياق شكوى المسؤول الروسيّ، الغامض، علينا أنْ نفطن إلى أنَّ اجتماعات الناتو، والموقف الأميركيّ، أعقبهما هجمة أوروبيّة وتركيّة شرسة وهستيريّة، استهلّها وزير الخارجيّة الفرنسيّ المستقيل لوران فابيوس، تنال مِنْ روسيا والولايات المتّحدة وتتّهمهما بـ«الدماء السوريّة». بل إنَّ الأوروبيين والأطراف الإقليميّة في المنطقة تداعوا في مجلس الأمن يطالبون بـ«وقفة إنسانيّة» مِنْ أجل قرار «إنسانيّ شجاع» بالقتال في سوريا.


وبعد.. 

هل لا يلاحظ أحد أنَّ أوروبّا تستشيط غضباً من الولايات المتّحدة!؟ وهل يمكن أنْ يفشل أحد في فهم أسباب هذا الغضب!؟ أو أنْ لا يتذكّر حديث المسؤوال الروسيّ، الذي اكتشف وزملاؤه أنَّ تحرير الولايات المتّحدة مِنْ نفسها أسهل مئة مرّة مِنْ محاولة تحرير أوروبّا مِنْ إحساسها بالحاجة إلى تبعيّتها للولايات المتّحدة!

عموماً، إذا أردتُ أنْ أتحدّث بالنيابة عن ذلك المسؤول الروسيّ الغامض، فسألاحظ أنَّ هذا يعيدنا إلى الظاهرة العالميَّة التي تدفع باتّجاه «عولمة الإقتصاد» وتركيزه على الثروات والمال، فقاد ذلك إلى أنْ تعتقد دول هامشيّة، بلا ثقل استراتيجيّ، لا بالمعنى السياسيّ أو العسكريّ أو الاقتصاديّ الحقيقيّ أو الجغرافيّ أو السكانيّ، أنّها على درجة من القوّة تؤهلها لمعاندة قوى عظمى أو التلاعب بها؛ بينما دفعت هذه الظاهرة العالميّة مِنْ جهة أخرى إلى «أقلمة السياسة»، ونقلها مِنْ عهدة ممثّلي القوى الاجتماعيّة إلى مندوبي ووكلاء المدراء التنفيذيين، ما قاد إلى تقزيم بعض القوى الدوليّة.. لا سيّما في أوروبّا.

ولكنت كذلك تنبّهتُ إلى أنَّ أوروبّا، التي هي مجموعة متكاملة من القوى الدوليّة، باتت اليوم تفكّر وتدير السياسات بعقليّة الدول الإقليميّة!

وبالمناسبة، الحديث لا ينتهي هنا..


الميلاد الروسيّ الجديد 

يتابع المسؤول الروسيّ الغامض حديثه لأصدقائه المقرّبين، قائلاً: أتعرفون. لقد بقيت لسنوات أتطيّر مِنْ فكرة ميلاد روسيا الجديد. لقد وُلِدت روسيا الجديدة مسحورةً بالغرب، مستلبةً للولايات المتّحدة، ويمتلئ رأسها بالأوهام الورديّة الأوروبيّة. وهذا خلل بنيويّ في الميلاد، لا شفاء منه، ولا أمل بالتحرّر مِنْ أعراضه. وبقيت طوال سنوات موقناً أنَّ انهيار بلادنا أقرب وأكثر واقعيّة واحتماليّة مِنْ إمكانيّة استفاقتها مِنْ أوهامها الغربيّة. وبقيتُ على قناعتي هذه إلى أنْ قَبِلَ سيرغي فيكتورفيتش (لافروف) تولّي وزارة الخارجيّة. أدركتُ لحظتها أنَّ نواة جهازنا البيروقراطيّ ظلّت صلبة، ولم تنسق وراء التحالفات التشرذميّة في التسعينيّات التي وضعت أجهزة الدولة بمواجهة بعضها البعض، لصالح الأوليغارش، وعادت جميعها المجتمع. وكان بديهيّاً أنْ أفهم ذلك، خصوصاً أنَّ سيرغي فيكتورفيتش رفض نفس الوزارة ثلاث مرّات طوال عشر سنوات، بدءاً مِنْ منتصف التسعينيّات.

وهنا، لم يتمالك واحد من «الأصدقاء المقرّبين» نفسه، وانساق وراء فضوله يتساءل: 

- ولكن علاقات روسيا في العالم أصبحت شائكة اليوم!؟

فجاءه الجواب: 

- صحيح. ولكن قبل ذلك، كانت علاقات العالم شائكة داخل روسيا نفسها! 
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال