جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣
قبل الموعد بستِّ سنوات
صادفتْ يوم أمس الأوَّل (الاثنين 8/2/2016) الذكرى الرابعة عشرة لرحيل صديقنا الأديب الأردنيّ مؤنس الرزَّاز. وبهذه المناسبة، التقى، في مساء اليوم نفسه، طيفٌ واسع مِنْ صديقات وأصدقاء مؤنس، في مكانٍ شعبيٍّ قديم في وسط البلد، هو «مطعم الشرق – أبو أحمد»، ليحيوا ذكراه معاً. وقد اختاروا هذا المكان، بالذات، لأنَّ مؤنس كان يفضِّل الجلوس مع أصدقائه في الأماكن الشعبيَّة في وسط البلد. 

وكما هو الحال مع مؤنس في حياته، فقد كان الأصدقاء المشاركون في إحياء ذكرى رحيله، ممثِّلين لألوان مختلفة من الطيف السياسيّ والفكريّ والثقافيّ والأدبيّ والاجتماعيّ (والاقتصاديّ أيضاً)، وكان في مقدِّمة الحضور صديقنا الدكتور عمر الرزَّاز، شقيق أديبنا الراحل. 

ويوم الجمعة الماضي، خُصِّص «ملحق الرأي الثقافيّ» لإحياء ذكرى مؤنس أيضاً، وقد تكرَّم الزملاء في الرأي الثقافيّ بإعادة نشر المقال الذي كان قد نُشِرَ لي في الرأي عند رحيل مؤنس في 8/2/2002. 

وتالياً، أُعيدُ نشر ذلك المقال، هنا في مدوَّنتي، وأضعُ أسفله رابطه في ملحق الرأي الثقافيّ، وأيضاً رابط الملحق كلّه لِمَن يحبّ أنْ يقرأ كتابات الزملاء الآخرين عن مؤنس: 


قبل الموعد بستِّ سنوات 

أُمسِكُ بالقلم لأكتب لك عن ألمي بفقدك المفاجئ والصاعق، ولأشكو لك الفراغ الكبير الذي سيملأ حياتي بغيابك بعدما أدمنتُ صداقتك إلى حدّ أنَّني كنت أكاد في السنوات الأخيرة أقصِر صِلاتي ولقاءاتي عليك وعلى الأحبّاء الآخرين أعضاء «عصابة الوردة الدامية»: سميحة، ويوسف (الذي سيفتقدك أكثر من جميع الأصدقاء)، وهاشم. 

وها أنا أتحدّث عنك فأوجّه الحديث إليك.. كما لو أنَّنا لا نزال نواصل أحد حواراتنا الجميلة الممتعة على شرفة منزلك في جبل اللويبدة. ثمَّ أفطن إلى أنَّك قد غادرتَ تلك الشرفة نهائيّاً إلى مكانٍ بائسٍ شديد الضيق. 

فأتذكر، متألِّماً، نصَّ «مكان» مِنْ كتابي «بعد خراب الحافلة»: 


«مكان» 
«كان المكان ضيّقاً إلى حدِّ أنَّني بالكاد كنت أتنفَّس، ومعتماً إلى حدّ أنَّني بالكاد كنت أرى. لكنَّني قلت لنفسي: عمَّا قريب سينبلج الصبح، وتنفتح الأبواب، فاخرجُ الى الفضاء الفسيح. 

ورحت أنتظرُ. ولقد مرَّ وقتٌ طويلٌ وأنا على هذا الحال. ثم وجدتني فجأة أهوي إلى الأرض مِنْ دون حراك، فاذا ببعض الأشخاص يأتون إليّ، فيأخذونني إلى حفرةٍ شديدة الضيق، يضعونني فيها، ثم يهيلون التراب عليّ». 

قبل الموعد بستِّ سنوات
لوحتان بريشة مؤنس الرزَّاز 

ويخطر في بالي الآن أيضاً أنَّك طوال السنين التي عرفتك خلالها، منذ خروجي من السجن في العام 1983 ولغاية يوم رحيلك المشؤوم والمأساويّ، قد كنت دائماً تطارد الموت ويطاردك، تتحاور معه وتسخر منه، تستسلم له أحيانا وتتصدَّى في أحيان أخرى، ولشعورك القويّ بأنَّه يتربَّص بك طوال الوقت واصلتَ العمل (رغم ادّعائك التنبلة) واستطعتَ خلال زمنٍ قصيرٍ إنجاز الكثير من الأعمال الأدبيَّة المميَّزة، رافضاً أنْ تكون مجرّد جثّة على قيد الحياة. لكنّ احساسك القويّ بمطاردة الموت لك كان يجعلك أحياناً تميل إلى التفكير بحرمانه من الإمساك بزمام المبادرة، فتخطّط لملاقاته بقدميك. 

وحين كنتُ الاحظُ هذا، كنتُ اتَّهمك بخيانة «مبادئ التنبلة» التي لا تتوافق مع الحماس لأيّ أمر أو حَثِّ الخطى إليه.. حتَّى لو كان هذا الأمر هو الموت نفسه الذي هو في النهاية سكونٌ تامّ وصمتٌ مُطبِق. وكنت أقول لك أيضاً: علامَ العجلة، فالموت آت في النهاية، آجلاً أم عاجلاً. 

ومرَّةً.. قبل أشهر قليلة، سمعتك تقول إنَّ إحساسك يُنبئك بأنَّك ستموت عندما تبلغ السابعة والخمسين مِنْ عمرك. 

لكنك، للأسف، لم تنتظر حتَّى هذه السنوات الستّ القليلات! 

وهنا أستعير صوت «أسد محمَّد قاسم»، وهو يقول: 

«السنين الباقيات 
فارغات 
ككؤوس الخمر عند الفجر في رأس السنة 
صامتاتٍ مُتعبات 
بعيونٍ جاحظات 
وثغورٍ باسمات 
مثل قبر 
الندامى غادروا والليل ماتْ» 


أخي مؤنس، 
أعرف بأنَّك لا تنتمي إلى هذا الزمن البائس المتهالك، بل إلى زمن آخر مليء بالقيم النبيلة والأحلام العريضة والطموحات الواسعة، وأنَّك كنت تفيض بالشعور بالألم والقهر مما آلت إليه أحوال أمّتنا وبلداننا، وأنَّ شعورك بالغربة حيال ما يحيط بك قد تفاقم إلى أبعد الحدود، لكنَّني متأكّد بأنّك كنت تستطيع أنْ تفعل الكثير حتَّى مع مثل هذه الظروف.. بل إنَّك قد فعلت. 

غير أنَّ هاجس الخوف من المصير البائس لجثّة تواصل الحياة، ذلك الذي أرَّق ويؤرّق كلَّ «الديناصورات» وأنت في طليعتهم، كان لا يكفَّ عن مطاردتك. 

وهنا، أستعير نصّاً مِنْ كتابي «بعد خراب الحافلة»، وهو بعنوان «جثّة». 

«مشى الرجل طويلاً، وبينما هو ينقل خطواته مات! غير أنَّه لم يفطن لموته، كما أنَّه لم يعرف كيف يأوي إلى قبره، وأخذت جثّته تتحلَّل، فلم يعرف ماذا يفعل بها، فحملها وواصل المشي. عندئذٍ مات مرَّةً أخرى وأمعنَ في الموت بينما هو لا يزال يواصل المشي». 

وقد كتبتَ معلِّقاً على هذا النصّ: 

«ثمَّة مَنْ يموت ويواصل المشي ليكتشف ما بعد الموت! وثمَّة مَنْ يموت ولا يفطن لموته.. فيواصل المشي! 

وثمَّة مَنْ يموت فتتحلّل جثّته، ولا يدري ولا يشمّ الرائحة، ولا يحسّها فيواصل المشي! لكن ثمَّة فئة مختلفة تماماً: يموت أفرادها فيواصلون المشي، كي يُبعثوا مرَّةً أخرى. 

يمشون نخب حياة لا تسلِّم بالموت! 

إنَّهم يموتون.. فيواصلون المشي تحدّياً لهذا الموت المعنويّ: إنَّهم يقاومون. 

على أنَّني أعرف أمواتاً في البحر الميّت يتهالكون على غنائم الدنيا، مثل منصبٍ هنا أو جاهٍ هناك، أو شهوةٍ هنالك». 

وتواصلُ – يا صديقي - قائلاً في المقام نفسه: 

«وهكذا أكتبُ على لسان سندبادي: 
أمشي بمعنى التخطّي.. نحو ما وراء ملامح الدنيا.. 
حيث الموت حيّ.. على ما اعتقد.. والله أعلم!! 
تاركاً وراء ظهري مجد انتصاراتي الجزيلة وجلال انكساراتي الغزيرة. 
لقد تخطّيتُ، عنيتُ: تحرَّرتُ». 


أخي مؤنس، 
لماذا تكون اللقاءات الأخيرة عاديَّةً، غالباً، وشديدة البساطة؟! 

لقد كان لقاؤنا الأخير في «مقهى عمّون» الذي كانت «عصابتنا» قد قرَّرتْ في المدّة الأخيرة ارتياده كلّ أحد. 

تحدَّثتَ، في ذلك اللقاء، طويلاً، واستذكرتَ العديد من الأصدقاء وبعض المواقف الطريفة التي جرت معهم. 

قبل الموعد بستِّ سنوات
لوحة أخرى بريشة مؤنس الرزَّاز 

ثمّ انفضَّ لقاؤنا في السادسة والنصف وتصافحنا مودّعين على أمل اللقاء مِنْ جديد. لكنك بعد نصف ساعة كنت قد دخلت غيبوبتك الأبديَّة في مستشفى لوزميلا. 


أخي مؤنس 
الآن، بعد كلّ هذه الثرثرة الطويلة، فطنتُ إلى أنَّك لن تقرأ شيئاً مِنْ هذا الذي كتبتُه لك، ففترتْ هِمّتي للكتابة أو القول. فقد تعوَّدتُ لسنواتٍ كثيرةٍ أنْ أتحدَّث عن أحاسيسي العميقة معك، لا عنك. 

ومع ذلك، أخي الحبيب، أريد أنْ اسألك سؤالاً أخيراً: 

لماذا فعلتها والأرض تهيّئ نفسها لربيع مميَّز؟! فأنت تعرف بأنَّني لا أحبُّ أنْ يرحل الأحبّاء في الربيع، كي لا تصبح الأزهار دموعاً كئيبة في الجنازات بدلاً مِنْ أنْ تكون لغة جميلة بين العشاق. 

وأنت تعرف أيضاً بأنَّني لا أحبُّ أنْ يرحل الأحبّاء في الصيف كي لا تصبح مواسم الحصاد ونضج الثمار والسهرات الطويلة الجميلة، مواسم للبكاء والتفجّع على فقد الغالين والاعزاء. 

ولا أحبُّ رحيلهم في الخريف حيث تكون الطبيعة مرهفة، وأقلّ نقرة على أيّ وترٍ مِنْ أوتارها تثير موجاتٍ هائلةً من الأسى والشجن. 

ولا في الشتاء حيث تصخب الطبيعة وتثور مفجِّرةً كلّ مكنونات النفس البشريَّة المرهفة.. فلا يبقى فيها متَّسعٌ لمزيد. 


أخي مؤنس 
أما كان يمكن لك أنْ توجِّل رحيلك إلى موعدٍ آخر خارج كلِّ الأوقات والفصول؟! 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رابط مقالي: 


رابط ملحق الرأي الثقافي المكرَّس لذكرى رحيل الأديب الأردنيّ مؤنس الرزَّاز: 

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال