جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

ياسر قبيلات ▣
على شفا مفاجأة
هل أصبحت الأمور غاية في السوء؟ لا. السياق أشد هولاً من ذلك. لقد أصبح الأمر خطيراً فعلاً؛ وهو لم يعد متعلقاً بخلاف في سوريا، ولا حتى بسوريا نفسها. ولكنه يمس روسيا ذاتها، ولا يقتصر على علاقاتها بتركيا، أو بموقفها من الحرب على الإرهاب فقط. 

بداية، فإن الحديث عن ضبط النفس، والإلتزام بعدم الإنجرار إلى عمليات عسكرية، لا يعني أن حرباً ما لن تدور رحاها من الآن وصاعداً، وستتسلسل حلقاتها متتالية، لتجعل من تاريخ سقوط الطائرة الروسية بداية لمرحلة جديدة في الصراع الدولي في المنطقة. 

ويجدر بنا أثناء متابعتنا للأشكال الصريحة التي ستأخذها هذه الحرب، أن ننتبه إلى السياقات الغامضة التي ستجري تحت سطحها؛ فالأمر ليس مجرد امتحان صعب يواجهه الرئيس الروسي، بل هو اختبار يضع روسيا كلها على المحك، ليس في مجال هيبتها الدولية أو دورها في الملف السوري، أو في المنطقة. وليس حتى بما يتعلق بدورها ومكانتها الدولية. ولكنه اختبار مصيري، لا تستطيع أن تتركه يمر هكذا، وإلا عنى ذلك فقدانها السيطرة على نفسها داخلياً.. 

وهو امتحان تعتقد روسيا، ويعتقد قادتها، أنهم اجتازوه منذ وقت كاف، ولا يمكن اخضاعهم له من جديد إلا في سياق محاولة عدوانية تسعى إلى حرف بلادهم بحدة عن الطريق، لإسقاطها في منحدرات سحيقة، تنهيها وتحطمها تماماً. 

وفي هذا، يبدو جلياً ذلك الاستعداد العدواني، الذي يفوق القدرة التركية على التفكير والتدبير. وهذا يبدد بعض الأوهام التي تمسكت فيها موسكو خلال الفترة الماضية، وتتعلق بالتعويل على «براغماتية» ما، لدى دول إقليمية، تحفزها على التعاطي الإيجابي مع السياسات الروسية في المنطقة وقبولها. 

لذا، فإن أول ما لدينا هنا، هو صرف نظر روسي عن دور مفترض لهذه الدول الإقليمية، ومثالها الأول تركيا، في الحرب على الإرهاب، والكف عن التعويل على دورها وقبولها «البرغماتي» للدور والسياسات الروسية في المنطقة. 

لقد كشفت حادثة اسقاط الطائرة للقيادة الروسية متأخراً أن براغماتية تركيا ليست أقوى من تطرف أردوغان. وأن جنون الاسلام السياسي أقوى من عقله. وأن قوى الاسلام السياسي لا تكون إلا متطرفة، ولا يمكنها أن تعيش دون أذرع من إرهاب. وأن من الخطورة بمكان أن يكون لدى هذه القوى دولة، لا سيما إذا كانت هذه الدولة عضواً في تجمع عسكري دولي. 

وربما يمكن القول هنا بالذات، أن خصوم إيران، الذين لا يكفون عن نعتها بـ«الفارسية»، يبرؤونها من تهمة الإسلام السياسي. وهم بذلك يمدحونها بوضعها في سياق مختلف، يؤهلها لحياة سياسية أطول وأمتن. 

وهنا أيضاً يمكن أن يتفأجأ كل من راهن على اسقاط الطائرة الروسية أن الحادثة شكلت نقطة دفع لتوجهات معاكسة لرغباتهم؛ ومن ذلك أن الزيارة التي قام بها الرئيس الروسي إلى طهران، التي اعتبرت قفزة كبيرة في العلاقات الثنائية بين البلدين بما يتعلق بمصالح خارج حدودهما، ليست سوى نقطة في بحر بالمقارنة مع ما نجم عن تداعيات اسقاط المقاتلة من تمتين وضع طهران في التحالف الروسي، وفي تقريبها من موسكو إلى درجة يمكن أن تحبط فعلاً مساعي قوى اقليمية في وضع الحواجز أمام دور إيراني، في العالم والمنطقة. 

الأمر الآخر، الذي يمكن أن نلحظه هو أننا أصبحنا قريبين من اعلان الأجواء السورية مغلقة أمام الطيران الأجنبي. وقد تهيأت اليوم مع منظومتي الـ«فورت» والـ«إس 400» كل الإمكانيات العملية لذلك. 

وبما لا يقل أهمية عن ذلك، يمكننا أن نلحظ أن أوروبا تلتحق تباعاً بالحرب الروسية ضد الإرهاب، رغم الكوابح التي يضعها الحليف الأميركي، الذي يبدو في طريقه ليتحول فعلاً إلى قائد لتحالف اسمي، ليس فيه سوى طيرانه وقواته الخاصة. 

وسيتضح في الأيام المقبلة أن تعويل أردوغان على مساندة أطلسية لأنقرة في مناطحتها المفاجئة لموسكو ليست سوى أوهام «عثمانية»، وتهور اسلامويّ يشبه الحماقة التي ارتكبها الاخوان المسلمون في مصر بالتعويل على مساندة قوى اقليمية ودولية في مناطحاتهم الداخلية. وقد يكون من المقدر لتركيا أن تواجه أسوأ محنة تمر عليها منذ نصف قرن مضت. 

تدرك تركيا الآن أن روسيا لا يمكنها أن تتقبل التعرض لامتحان يهدد مصيرها، وأن ذلك سيدفعها إلى وضع مصير الكيان التركي نفسه على المحك فوراً؛ وأن موسكو عند اللزوم لن تقبل بدخول حرب تقليدية مع أنقرة، فهذا يعطي الأخيرة مجالاً لأن تبدو قوة قادرة على المجابهة، وأن الخيار المطروح هو السحق والحسم السريع بأسلحة معروفة، ثم فتح تركيا أمام سيناريوهات تقاسم جيوسياسي تفرضها المطالب التاريخية الأثنية فيها. 

لقد حاول الغرب أن يباغت روسيا في أوكرانيا، فاتجهت موسكو إلى صلب الموضوع وهو متعلق بمحاولة حرمان اسطول البحر الأسود الروسي من قاعدته في القرم، وتحويلها إلى قاعدة أطلسية؛ وسرعان ما فاجأت القيادة الروسية المخططين الغربيين باستعادة القرم، وعاجلت ببناء مظلة حماية مضادة فيها، تحمي الأراضي الروسية من آثار التمدد الغربي. 

وفي الاستفزاز التركي الأخير، ومع المنظومات التي أدخلت إلى سوريا، يصبح لدى روسيا مظلة حماية أخرى شرق المتوسط، تتداخل في شكل دائرة مع تلك الموجودة في القرم. وهذه واقعة ثانية تعتمد فيها روسيا الرد بـ«أسلوب المفاجأة»، ولن تكون هذه الواقعة الأخيرة. 

وما يجب التفكير فيه، هو أن الاستفزاز التركي، ما زال يوفر لروسيا الفرصة لوضع العالم على مشارف مفاجآت أخرى، لا بد قادمة، وقد تحمل الرئيس الروسي إلى سوريا!
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال