جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

«المدوَّنة»

صدرتْ، منذ مدّة قريبة، الطبعة الثالثة مِنْ كتاب «البدايات» للمناضل الوطنيّ والأمميّ البارز، الدكتور يعقوب زيّادين. ويسرد الكتاب، بلغة سلسة وجميلة، قصّة الراحل الكبير؛ ابتداءً مِنْ طفولته في قرية السماكيّة في الكرك، ثمّ انتقاله للتعلّم في دمشق وبيروت، وتحوّله إلى تبنّي الفكر الشيوعيّ، وإقامته في القدس، وانتخابه نائباً للقدس عام 1956، ثمّ الزجّ به في سجن الجفر بعد أشهر من انتخابه، ثمّ خروجه من السجن في أواسط ستينيّات القرن الماضي، والتحاقه بعائلته الصغيرة التي كانت قد لجأتْ إلى ألمانيا الديمقراطيّة السابقة.

طبعة ثالثة من «البدايات».. وكلمة الغلاف بقلم أحمد جراداتوتكثر في الكتاب التفاصيل الإنسانيّة المؤثّرة، كما أنّه لا يخلو من النقد الذاتي ومحاولة استخلاص العِبَر والدروس المستفادة.. كما هي عادة الراحل أبي خليل.

وتجدر الإشارة إلى أنَّ نسخاً كثيرة من الكتاب وُزِّعتْ على حضور حفل التأبين الحاشد الذي أُقيم في المركز الثقافي الملكيّ بتاريخ 31/5/2015 الماضي.

وقد وُضِعَتْ على غلاف الكتاب كلمة رثاء بقلم الرفيق أحمد جرادات، ننشرها تالياً:

ليست مرثية: مَن يرثي مَن؟

أبا خليل،

لستُ أحاول هنا أن أرثيك، فمَن يرثي مَن؟ ومَن فينا الأحوجُ إلى الرثاء، أنت أم نحن؟ بل أحاول أن أقول فيك بعض الكلام الذي أرجو أن يليق بك ويجدر، وأحدِّثك بلغة القلب الخضراء، لا بلغة السياسة العجفاء.

فقد عشتَ رافع الهامة كما اخترتَ، ورحلتَ كما شئتَ ومتى شئتَ واقفاً كسنديانة، أليس هذا لقبُك أيها الكبير المتواضع، الذي لم تتضخم ذاته يوماً، فلم تتدحرج كرةَ نار أو ثلج إلى قاع المصير البائس لعشاق الذات؟ لم تعرفْ الكراهية والحقد، ولا حتى ما درجْنا على تسميته بالحقد المقدس، ولذا فقد تصالحتَ مع نفسك، فصفا ضميرك وهدأتْ روحك وفاضت، لحظة فاضت، مثل نسمة بلا ألم. آمنتَ بالحتمية التاريخية عندما هرولَ كثيرون نحو إعلان البراءة منها. وحين ساد دين الليبرالية وأيقونتها "نهاية التاريخ"، ظللتَ ترى بثفة نهاية الرأسمالية المتوحشة وأزمتِها البنيوية حفارةِ قبرها.

بيد أنك حين رأيتَ بأم عينك كيف يعربد في أرضنا وعلى أجسادنا أمراء الزيت والقتل والطوائف لعصر ما قبل الدولة... كيف يأمر المايسترو الأعلى بتوحيد فتاوى التكفير ووصفات السوق الحر في مجلد واحد ودمج كتائب الليبراليين الجدد والوهابيين الجدد في فيلق واحد، فيُطاع... كيف يستقدم العرب أعداء أمتهم ويستعينون بهم لتدمير بلدانهم وتقسيمها قطع أراضٍ مفروزة مبتهجين بصداقة المستعمرين والمحتلين، مهلِّلين ومكبِّرين لخوض حروبهم بالوكالة...كيف تُنظَّم مهرجانات الذبح و"سيركات" الحرق والسبي على شاشات الفضاء، ويكون "النصر بالرعب" و"إدارة التوحش" الطبعة الوهابية "للصدمة والرعب" و"الفوضى البناءة"... كيف تتحول سبأٌ العظيمة إلى خرابة وتُتَّخذ بلقيسُ الجمال والرقيِّ رَكوبةً لبعير، ويمتزج صبا بردى ودمع أمير الشعراء بدم التلاميذ الطازج ورائحة لحمهم المشويِّ...  وكيف تُمحى منجزات التاريخ الإنسانيِّ العريق الذي شهدَ إبداعَ الحروف والقوانين والفنون منذ فجر البشرية، احتفاءً بالعودة إلى التاريخ الصفر، التاريخ الدارس والحضارة الدارسة...

عندئذٍ أبيتَ يا أبا خليل أن تكون شاهداً متفرجاً على هكذا عصر، فغادرتَنا بهدوء!

أمسِ ودَّعناكَ واستودعناكَ صدراً حانياً في التراب الذي أنْبتك، بين سنابل شعير "السماكية" بجوار وفي حراسة جبل شيحان الذي لا يغفل أبداً، وتطلُّ عليك من الأفق الغربي عين جبل المكبِّر التي لا تنام. وغداً سيمرُّ بمرقدك القاصدون والعابرون ليقرئوك السلام، وسيقرأون على شاهد قبرك النديِّ: هنا يغفو يعقوب زيادين: مناضلاً كان.. شجاعاً كان... كانَ وكان وكان، لكن الأهم من هذا وذاك أنه: إنساناً كان.


أحمد جرادات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال