جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

تكرَّمتْ صديقتنا الأديبة السوريّة المعروفة، الدكتورة ناديا خوست، فأرسلتْ لي مقالين كَتَبَتْهُما عن أسد محمّد قاسم. وأنوي أنْ أنشرهما في مدوّنتي، تباعاً؛ حيث تتحدّث د. ناديا في المقال الأوّل بلغة جميلة عن حياة «أسد»، وفي السياق تكشف جانباً مِنْ صداقته مع الثائر الأمميّ الشهير كارلوس. وتتحدّث في المقال الثاني عن شعر «أسد». 

تجدر الإشارة، هنا، إلى أنَّني كنتُ قد كتبتُ مقالاً مطوّلاً عن أسد محمّد قاسم، ونشرتُه في مدوَّنتي هذه، بعنوان «أسد محمّد قاسم.. قبل داعش والنصرة»، وقد أشرتُ فيه إلى أنَّ عدداً من الكُتّاب العرب استقوا بعض قصصهم أو رواياتهم مِنْ بعض وقائع حياة أسد محمّد قاسم، وذكرتُ مثالين مِنْ هؤلاء، هما: ناديا خوست وحنّا مينا.

وتالياً المقال: 



تنتقِمُ المدنُ أحياناً مِنْ محبّيها


  د. ناديا خوست


تنتقِمُ المدنُ أحياناً مِنْ محبّيهايبدو الموت للأحياء دائماً بعيداً. فيؤجلون الكلمة التي قد تردّ عتمة. لذلك نتساءل أمام الموت عن علاقة الحياة بالروح. ويخطر لنا أن الوطن والناس يمكن أن يمدوا حياة ويمكن أن يختصروها. وها نحن فقدنا بموت صديقنا أسد قاسم، من الحياة مقدار المساحة التي كانت له لدى كل منا. فهل عجزنا عن مدّ حياته لأنه أغلق بوابته على نفسه، أم لأننا تأخرنا في عبورها؟


يصعب أن نجمع من الومض صورة كاملة له، كأننا الرسام الذي يتهيب البحر! مع ذلك يتيح لنا الموت عندما يضع نقطة النهاية أن نرى قامة من فقدناه. أسد قاسم الذي اعتزل العتمة العامة في الأشهر الأخيرة قبل وفاته، إنسان واسع، محظوظ بأنه كان في وسط مسائل زمنه. بدأ من حياة ريفية سعيدة في بلدة فلسطينية نسفها الاحتلال الإسرائيلي. فحكم القدر العام منذ تلك البرهة حياته الشخصية. أصبح تحت زيتون بنت جبيل لاجئاً دون بيته وشجره ونبعه وأرضه. لكنه من تلك الفلاة تناول زوّادة الشاعر والسياسي. وفكر فيما بعد بإشارات الرموز إلى الحقائق الكبرى التي بدت كمقطع من حياته الشخصية. صادف كلبه يوم تسلل مغامراً إلى صفورية. رافقه الكلب هناك لكنه رفض عبور النهر معه، وبقي في فلسطين حتى صاده الرصاص الإسرائيلي.


ساقه هذا القدر العام إلى البحث عن نجاة عامة. فحص البهائية وغيرَها. ثم اندفع في أول مؤسسات سياسية وطنية رأى فيها مشروعاً اجتماعياً وإنسانياً واسعاً. وسحرته فيها علاقات تسمو على رابطة الدم. انغمس في صدامات ذلك الزمن التي أصبحت رصيداً لقوى صارت متحالفة. لكنه رفل في السجن بعلاقات البلدة التي لا تكسر فيها السياسة قرابة الحارة والعشيرة. وبهره أكثر من ذلك شعبه الذي نقله من مكان إلى آخر كرمز يحمى.


خلال الاكتشافات التي نقلته من وعي إلى آخر، قدّر له أن يصحو من أوهام الشباب التي صورت له أن المؤسسة الوطنية كتلة بيضاء متناسقة. ليكتشف أمواج المجتمع ومستوى من فهم النظرية والمشروع وقيّده الزمن بالوهم أو الجهل. ولعله في دمشق واجه أول مرة مسألة الدولة القومية والمغامرة المسلحة. فانتبه بحدسه الصحيح إلى خطر الانسياق في مشروع التدخل الذي سقطت فيه يومذاك بعض القيادات الوطنية. ولعله أسس على تلك التجربة نصيحته للثوري كارلوس فيما بعد. ومع ذلك طاف اسم أسد كمتهم بما لم يوافق عليه، وحوكم على ذلك. وكان وقتذاك يدفع في مؤسسته ثمن تمرده على قرار المغامرة المسلحة. سنده في تلك الأزمة وهو بعد شاب غض، فرج الله الحلو، الإنسان الواسع الذي أصغى إليه وثبّت حدسه الصحيح، وعمّق ايمانه بقدرته على قراءة المضمر.


خلال ذلك كان يكتشف في دمشق دنيا من السياسيين المتنوعين ومن النساء الجميلات، ومن الأصدقاء، ومن المقاهي والمطاعم والشوارع والحدائق، وينجرف بالحب والأحلام. بدا له ذلك الزمن في دمشق دهراً غنياً ظل يرافقه طول عمره. حتى أذهلته قدرة الإنسان على مدّ السنوات وتقليصها. قدم له الزمن وقتذاك تجربة ثورة العراق. رحل إلى بيروت مضطراً بعد لقاء ليلي ثقيل في دمشق. وانتقل إلى بغداد. فعاش في المركز الآخر من مراكز الحركة الوطنية يومذاك. وعرف من قرب رجال الثورة، ورأى الحماسة التي تجرف الشوارع والسياسيين ومحكمة المهداوي. وأطل في الوقت نفسه على بيوت بغداد وذاق حرها، وانبهر بجمال نسائها، واكتشف مقاهيها وتفرج على سجونها. لكنه خرج من بغداد كمن يطلب النجاة. وأنقذه أصحابه من النار التي احترقوا بها.


عندما حطّ في أول بلد اشتراكي بدا كمن وصل إلى الجنة. بدا له أيضاً أنه لمس حلمه. سمعت صوته بالهاتف يومذاك سعيداً، متفائلاً. لكنه التقى في براغ بأصدقائه وبأعدائه أيضاً. واكتشف أن الجنة الإنسانية ليست كالعسل الصافي الشفاف. كانت المساحات الإعلامية والثقافية التي تَحرك فيها أسوأ المساحات وأعقدها. كان يحكمها الصهيونيون في انتظار اليوم الموعود الذي يرمون فيه عن أنفسهم وعن البلاد بُردة الاشتراكية. وعندما انتقل إلى بلد اشتراكي آخر وكان أكثر نضجاً، لمس الحبال الصهيونية التي تقيد الإعلام والثقافة والسياسة. وأذهله أن يعبّر له وزير الدفاع نفسه عن حذره من الصهيونية التي تحكم المفاصل الثقافية.


بدأ أسد من التهجير من بلدته الريفية السعيدة في فلسطين، وخلال حياته اكتشف أن الصراع المركزي في بلاده ممتد في العالم، ومحكوم بوزن أصدقائها وأعدائها. في برهة ما في هنغاريا خيل إليه أنه استعاض عن الوطن المفقود، وأنه استقر في مدينة جميلة، في بيت رتبه بذوقه وأسرة رسمها. لكنه اكتشف أن الحياة الإنسانية ليست صفحات من ورق. فالموهوب مثله بالذاكرة المرهفة التي تستبقي اللون والعبق والشكل، لا يستطيع أن يعيش دون ماضيه. وفي البرهة التي نهض فيها من أنقاض سعادته كان العالم ينهار.


يوم التقيت به في بودابست حدثني عن الخراب الذي يلمسه حوله. ولعل قلّة من الرجال لمحوا يومذاك الخطر الذي شعر به أسد. فضيوف القمة كانوا يتجولون في مساحات محددة مسبقاً. والذكي منهم كان مؤمناً بقدرة القوة العسكرية والأمنية على منع الردّة. لم يخطر لأحد أن الخراب قد رُسم من القمة والمركز بعد فشل التمرد في الأطراف. عندما نبه أسد أصحابه العرب إلى الخطر لاموه، وبدا لهم مرة أخرى مستسلماً لهواجس لا سند لها. ولعله أصبح وحيداً وهو يقرأ انهيار المعسكر الاشتراكي، ويضع خطوطاً حول تسرب الصهيونية إلى المؤسسة السياسية والمؤسسة الفكرية والإعلامية. كان كوطني عربي غيوراً على بلد اشتراكي أكثر من مواطني ذلك البلد المسؤولين عنه. وسنده يومذاك أصدقاؤه الهنغار.

عندما التقى بكارلوس هناك كان كمن رأى شبيهه ونقيضه. سحرته شخصية كارلوس وتصوفه في مشروعه وحماسته وحركته. كان أسد مرة أخرى وسط مسألة كبرى: وضع الأحزاب التي ألزمت برامجها بمبدأ التعايش السلمي، ولم تنتبه إلى عزلتها عن شعوبها. ووضع الشباب الدعاة إلى الثورة في أنحاء العالم الضعيفة. أحب أسد كارلوس وزوجته ليلي، مع أنه فهم درب كارلوس الضيق والمغلق. بل بدا له أن إقامة كارلوس في هنغاريا سهّلت للصهيونية مراقبته. عندم سُلّم كارلوس صدقت نبوءة أسد. وتابع محاكمته معجباً به. ورصد تفاصيل حياته في السجن. هل كان أسد يعي أنه وهو يخسر أصدقاءه، يخسر العالم الذي عاش فيه! وأنه بحدة حساسيته أصبح مؤهلاً للانسحاب منه!


كان قد تابع اغتيال أصدقائه الهنغار وقت انهيار المعسكر الاشتراكي. وكان الشاهد على غروب مرحلة تاريخية كبرى من أفق العالم. وكان يعيش غروبا آخر في حياته الشخصية. فحزم حقيبته وعاد وحيداً إلى بلدته. مع ذلك كان، بقوته الروحية، وبثقته الراسخة بنفسه، وبحبه الجارف للحياة، مغموراً بالأحلام العامة والشخصية. مقرراً أن يكمل حياته القديمة من البرهة التي تركها. وكأنه ما يزال ذلك الشاب الذي يسهر الليل ويتجول في النهار في دمشق حريصاً أن يعيش اليوم كله.


هل بدا بهياً في تلك الأيام وهو يجمع الجهات المتنوعة في حياته! فيزهو بغنى عمره، بنسائه، بحبه حتى الوجد، بقدرته المتوهجة على الأشواق، بإنشاد الشعر، بثقافته، بمهارته في الحديث وفرحه بأصدقائه؟ قال إن الطبيب أكد له أنه لن يعيش أكثر من سنتين. وكان في تلك البرهة يسخر من نبوءة الطبيب في نشوة من سيعيش دهراً. وكان يمكن أن يتبين من يراه أن الروح تستطيع أن تبعد الموت كما تستطيع أن تستقدمه. لكن مشروع أسد كان دائماً واسعاً أكثر مما تستطيع الحياة أن تقدمه. وأكثر مما يستطيعه من الصبر والدأب.

خارج حديقته التي غرس فيها أنواعاً من الورد وبعض العشب، كان الانهيار سيد العالم. انهيار العالم المهزوم، وانهيار العالم المنتصر، انهيار السياسة والفكر والثقافة والمؤسسات والقوانين الدولية والمعايير الإنسانية. فهل كان أسد يستطيع أن يقاوم ذلك إلا بمشروع سعادة شخصي كرجل عادي، أو بمشروع أدبي، يتجاوز التمرد العلني والغضب!


ذات يوم ردد الشارع الوطني قصائده. كتب في ما بعد أجمل من تلك الأناشيد. لكن العالم الذي عرفه كان قد انطوى، والعالم الراهن الذي وجد نفسه فيه يستوقفه مرض مطرب ولا يستوقفه موت شاعر. مع ذلك ما أهمية هذا في التاريخ؟ ألم يحدث مثل ذلك يوم وصل جثمان تشيخوف إلى موسكو في مطلع القرن العشرين؟ تغفو المدن أحياناً في خيبتها أو حزنها. تنتقم المدن أحياناً من محبيها. وقد يكون قدر العدالة أن تشترط أيضاً حماليها الجديرين بها وزمنها المؤهّل لها. وقد يكون في هذا كثير من المأساة. ألم يصبح تشيخوف بعد موته حياً أكثر مما كان في حياته؟


تبدو لي طباعة شعر أسد قاسم مهمة لمدينته (إربد) التي قرّر في أواخر حياته أنْ يعود إليها ليموت فيها، للذاكرة الوطنية في وطنه. تبدو نوعاً من مقاومة الغبن الذي يشعر به المثقفون الوطنيون، ومن الوفاء لمن لم يخن خبز بلاده وماءها. من الدفاع عن كرامة مدينة. فالمدن مهما أهملت مآتم كتابها وشخصياتها، تستلّهم كلما أعوزها كنز يظهر عمقها وغناها. وقد يأتي يوم تعتمد فيه المدن العربية عرض أوراق شخصياتها وصورهم وملامح حياتهم، يوم تعي أنها يجب أن تؤرخ ذاكرتها. يوم تقدّم تاريخها على زخرفة مبانيها.    
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال