جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣
فاتن حمامة أيقونة الستينيَّات.. وما أدراك ما الستينيَّات!
رحلت فاتن حمامة، وهذا أمرٌ محزن ومؤسف ويثير الكثير من الأسى والشَّجن.

فاتن حمامة في التَّمثيل مثل فيروز في الغناء؛ أداء راقٍ، وفنّ رفيع، ومضمون إنسانيّ عميق، وذكاء حادّ في التَّعامل مع الدَّور، وإبداع غير محدود. وهي مثلها أيضاً في حياتها الشَّخصيَّة؛ اعتداد شديد بالنَّفس، وتمسّك صارم بالكرامة الشَّخصيَّة، وترفّع دائم عن السَّفاسف والصَّغائر، ونأي حازم بالحياة الخاصَّة عن الأضواء الإعلاميَّة الَّتي تحيط بالفنّ والفنَّانين.

فاتن حمامة أيقونة الستينيَّات.. وما أدراك ما الستينيَّات!
قسطنطين ستانسلافسكي
كانت تمثِّل بتلقائيَّة؛ بل كانت تندمج بالشَّخصيَّة الَّتي تمثِّلها، نفسيّاً وجسديّاً، إلى أبعد حدّ؛ بحيث أنَّ مَنْ يشاهدها ينسى أنَّ ما يراه تمثيلاً. وهي، بهذا، أبرز المعبِّرين، عربيّاً، عن منهج الفنَّان والمخرج الرُّوسيّ العظيم قسطنطين ستانسلافسكي.. الَّذي ترك بصماتٍ قويَّة على فنّ التَّمثيل في مختلف أنحاء العالم؛ بحيث أنَّ أبرز وأهمّ الممثِّلين في العالم، هم ممَّن يتَّبعون منهجه ويؤدّون أدوارهم وفق تعليمات مدرسته. وكان في مقدِّمة هؤلاء، الممثِّل الأميركيّ الشَّهير الرَّاحل مارلون براندو.. تلميذ ستانسلافسكي المدهش والمخلص. 

لقد بدأت فاتن حمامة مسيرتها الفنيَّة، صغيرةً، في الأربعينيَّات، إلا أنَّها بلغت مرحلة نضجها الفنيّ وتألَّقت في السِّتينيَّات؛ فأصبحتْ أحد أبرز رموز تلك المرحلة الحيويَّة الَّتي يعدّها كثيرون معادلاً لما يُسمَّى «الزَّمن الجميل».

والسِّتينيَّات كانت (ولا تزال) حكاية بحدّ ذاتها.. ليس في مصر وحدها، ولا في بلادنا العربيَّة وحدها؛ بل في العالم كلّه.

«السِّتينيَّات وما أدراك ما السِّتينيَّات!»

(محمَّد مرسي.. الرَّئيس المصريّ الأسبق).
  
السِّتينيَّات كانت زمن بنطلونات الشَّارلستون، والقمصان المشجَّرة ذات الياقات الطَّويلة، والميني جيب والميكروجيب، وتسريحة «السَّدّ العالي» النِّسائيَّة في البلاد العربيَّة، والهيبّز (يا للهول!)، وجين فوندا، وفرقة البيتلز، وثورة الطّلّاب، وغيفارا، وكاسترو، وسارتر وسيمون دوبوفوار، وهيمنجواي، وكامو، ونجيب محفوظ، ومحمَّد الماغوط، ومحمود أمين العالم، وعبد العظيم أنيس، وتيسير سبول، وصنع الله إبراهيم، وغالب هلسا، وأمّ كلثوم، وعبد الحليم حافظ، وشادية، وفيروز والرَّحابنة، ومدرسة الحساسيَّة الجديدة الأدبيَّة في مصر الَّتي كان الأديب الأردنيّ الرَّاحل غالب هلسا هو ملهمها، وجمال عبد النَّاصر، وعبد الكريم قاسم، وأحمد بن بلّه، وهوَّاري بو مدين، وباتريس لوممبا، وصعود مشروع باندونغ الاستقلاليّ وحركات التَّحرّر الوطنيّ، وإحراز الاستقلال للعديد من الشّعوب والبلدان، والبرامج الاشتراكيَّة (حتَّى في البلدان الرَّأسماليَّة الَّتي اضطرَّت لمجاراة تلك المرحلة ببرامج اشتراكيَّة زائفة)، والرّقيّ الثَّقافيّ والتَّحرّر الاجتماعيّ.. الخ.

فاتن حمامة أيقونة الستينيَّات.. وما أدراك ما الستينيَّات!

«السِّتينيَّات وما أدراك ما السِّتينيَّات!»

نعم، بالنِّسبة للبعض، وعلى رأسهم الأميركان وأتباعهم وأدواتهم، كانت السِّتينيَّات كارثة؛ فقد شهدتْ تراجعاً في نفوذهم وانحداراً في مكانتهم؛ ولذلك، فقد كانوا (وما زالوا) يعتبرونها فترةً ذميمة، وأفضل منها بكثير، المرحلة التَّالية.. مرحلة الحقبة النَّفطيَّة أو «الحقبة السّعوديَّة».. كما أسماها صادق جلال العظم عندما كان لا يزال مفعماً بعبق السِّتينيَّات وقبل أنْ تمتصّه «الحقبة السّعوديَّة» وتلقي به في غياهبها؛ مرحلة السَّاداتيَّة، والبنجديديَّة (نسبة إلى الشَّاذليّ بن جديد)، والليبراليَّة المتوحِّشة الَّتي دشَّن عودتها غير الميمونة مِنْ ظلمات القرن الثَّامن عشر كلٌّ مِنْ مارغريت تاتشر ورونالد ريغان؛ مرحلة «مجاهدي الحريَّة» في أفغانستان.. كما وصفهم ريغان لدى استقباله لقادتهم في البيت الأبيض؛ مرحلة الانحدار الثَّقافيّ والاجتماعيّ إلى هوّة الظَّلاميَّة والتَّخلّف الاجتماعيّ؛ مرحلة «صراع الحضارات»، بحسب هتنغتون (بدلاً مِنْ صراع الطَّبقات)، ومرحلة «نهاية التَّاريخ»، بحسب منظِّر البنتاغون فوكوياما، في تعريفه المزوّر لتقهقر التَّاريخ إلى محطَّة الرَّأسماليَّة المتوحِّشة، الَّتي كان فيها في القرنين الثَّامن عشر والتَّاسع عشر، بدلاً مِنْ أنْ يواصل تقدّمه نحو العدل الاجتماعيّ والاشتراكيَّة.

لذلك، فإنَّهم عندما يقولون «السِّتينيَّات وما أدراك ما السِّتينيَّات!»؛ فإنَّما يقصدون القدح والذمّ والتَّعبير عن الرَّفض والامتعاض. أمَّا الَّذين وقفوا حينها في الخندق المعادي للإمبرياليَّة والصّهيونيَّة والرَّجعيَّة؛ الَّذين انتصروا للحياة وللتَّنوير والابداع والاستقلال الوطنيّ والعدل الاجتماعيّ بأفقه الاشتراكيّ، وانحازوا للثَّقافة الرَّفيعة وللتَّحرّر الاجتماعيّ، فقد كانت السِّتينيَّات بالنِّسبة لهم فترةً ذهبيَّة ناصعة، يستذكرونها بفيضٍ من مشاعر الحبّ والحنين والاحترام؛ وهو ما يعبِّرون عنه أحياناً بقولهم، هم أيضاً: «السِّتينيَّات وما أدراك ما السِّتينيَّات!».

وأختم بكلمات لا تنتمي إلى هذا الزَّمن.. زمن «الحقبة السّعوديَّة» ولوازمها ومشتقَّاتها؛ بل إلى السِّتينيَّات، فأقول: فاتن حمامة.. طاب ذِكرُكِ ومُجِّدَ اِسمُكِ.. فما أكثر ما واسى فنّكِ الرَّاقي نفوساً معذَّبة وضمَّد جراحها وأطلق أحلامها وهذَّب أحاسيسها!
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال