جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣
الحَبُّ والمِكيال
يجد كلُّ فنَّان حقيقي نفسه، بعد وصول تجربته الفنيَّة إلى مرحلة النضج، مشغولاً بالنظر فيها وخاضعاً لهاجس استيضاح وتوضيح الأبعاد النظريَّة التي تحكمها. ولا يكون السبب في ذلك هو أنَّه يريد توضيح نفسه بصورة أكبر للمتلقِّي، بل لأنَّه أكثر مِنْ ذلك، يريد هو نفسه أن يتعرَّف على تجربته؛ هويَّتها، ومعالمها، وميزاتها، وعيوبها، وإيجابيَّاتها، وآفاقها؛ ليتمكَّن من السيطرة عليها، ومِنْ ثمَّ ليتجاوزها نحو آفاقٍ أرحب، وأبعادٍ أعمق، وأساليب أرقى.

ومَنْ يقرأ أشعار الشاعر الصوفيّ جلال الدين الروميّ، يجد أنَّ هاجس التنظير الفنِّي، مِنْ ناحية، والنظر في تجربته الفنيَّة من الناحية الأخرى، قد شغل حيِّزاً ملحوظاً في أشعاره وكتاباته. ونحن هنا نستخدم مصطلح التنظير الفنِّي بشكل مجازي فقط؛ وبما ينسجم مع مستوى التطوُّر الفكريّ والثقافيّ في زمن الروميّ وليس بمقاييس زمننا الحاليّ.

ومع ذلك، فإنَّنا، عند الاطِّلاع على آراء وتصوُّرات الروميّ الفنيَّة، سنلاحظ أنَّ العديد من الأفكار المتداولة الآن في مجال النقد الأدبيّ والفنِّيّ كانت مطروحة أيضاً لديه، ولكن بصورتها الجنينيَّة المبكِّرة.

ففي إحدى حكايات أثره الأدبيّ الشهير بـ«المثنوي»، يحتدم الجدال بين بعض النقَّاشين الصينيين وبين بعض النقَّاشين الروم، حول مَنْ منهم نَقْشُهُ أجود. ويرغب السلطان بأن يمتحن كلا الفريقين ليحكم بنفسه على فنِّهما، فيأمر بوضعهما في غرفتين متقابلتين. وعندئذٍ يطلب الصينيُّون من السلطان أن يأمر بتوفير مائة لونٍ لهم. وبالفعل توضع الخزائن السلطانيَّة تحت تصرُّفهم ليأخذوا منها صباح كلِّ يوم حصَّتهم من الألوان. أمَّا الروم فقالوا: «لا لون ولا صبغ يليق بعملنا، فما هو إلا دفع الصدأ». وأغلقوا الباب عليهم وراحوا يصقلون «فصاروا في نقائهم وصفائهم مثل الفلك».

وهنا يبدو انحياز الراوي واضحاً لأسلوب النقَّاشين الروم؛ بل إنَّه، لا يترك معرفة موقفه المتحيِّز، ذاك، للاستنتاج والتخمين؛ إذ يعلِّق قائلاً: «فإنَّ مِنْ تكاثر الألوان لسبيلٌ إلى انعدام اللون. إنَّ اللون مثل السحاب وأمَّا اللالون فمثل القمر. وكلّ ما تراه في السحاب مِنْ ضوء والتماع، فاعلم أنَّه من الشمس والقمر والنجوم».

وعندما انتهى الفريقان مِنْ عملهما، رأى السلطان ما أنجزه الصينيُّون، أوَّلاً، فسلبت الألوان لبَّه حين وقع بصره عليها. ثمَّ اتَّجه إلى الروم، «فرفع الروم الأستار الفاصلة. فانعكس خيال ذلك التصوير، وتلك الأعمال، على تلك الحوائط الصافية المصقولة. فكلُّ ما رآه هناك (لدى الصينيين)، رآه هنا بصورة أبهى، كادت أن تستلب العين مِنْ محجرها»!

وفي النهاية يعلِّق الراوي قائلاً: «إنَّ أهل الصقل قد خلصوا من الرائحة واللون، ولهذا فإنَّهم لا يتخلَّفون لحظة عن مشاهدة الجمال».

وهذا عنصر رئيس مِنْ عناصر رؤية جلال الدين الرومي الفنيَّة، وهو ينطبق بالأساس على أسلوبه الفنِّي الخاصّ.

والخيال الحرّ الذي لا يتقيَّد بأيّ منطق متعارف عليه، هو عنصر آخر مهمّ مِنْ عناصر رؤيته وأسلوبه؛ حيث نجد الراوي في ختام إحدى حكايات «المثنوي»، يحذِّر مِنْ محاكمة تلك الحكاية وفق قواعد المنطق والسلوك العاديين. ولكنَّه لا يقصر رأيه ذاك على حكايته تلك فقط، بل إنَّه يعمِّمه على كلِّ حكاية أخرى؛ إذ يقول: «ولا تكن كمن سمع بعض الأقاصيص، وتمسَّك بحرفيَّتها تمسُّك "الشين" بلفظة "نقش". قائلاً: كيف تكلَّم كليلة هذا بدون لسان؟ وكيف استمع إلى كلامٍ مِنْ دمنة، وقد كان ذلك عاجزاً عن البيان؟ وهب أنَّ كلاً منهما كان يفهم لحن الآخر، فكيف استطاع البشر أن يفهموا هذا، وهو ليس بنطق!»

ويستمرّ الراوي في إيضاح رأيه في مثل هذا «الفهم» القاصر، قائلاً: «يا أخي! إنَّ القصَّة مثل المكيال، والمعنى فيها مثل الحَبِّ في المكيال. فالرجل العاقل يأخذ حصاد المعنى، ولا ينظر إلى المكيال، وإن كان وسيلة النقل».

ثمَّ ينتقل الراوي للحديث عن مستوى آخر من الخيال يرتبط برهافة الحس، فيقول: «فاستمع إلى ما يدور بين البلبل والوردة، مع أنَّه ليس هناك كلام صريح! استمع أيضاً لما يدور بين الشمعة والفراشة، واقتبس معناه، أيَّها المليح. فمع أنَّه ليس هناك قول مسموع، فهناك سرّ القول، فتنبَّه وحلِّق نحو القمم، ولا تتهاوَ كالبومة في طيرانك!»

وفي ما يتعلَّق بالخيال أيضاً يلفت النظر قول الروميّ في إحدى قصائده: «لا تقل إنَّ هذا خيال وضلال، فليس في العالم خيال بدون حقيقة»! وهو قولٌ يمكن فهمه على أكثر مِنْ وجه في الوقت نفسه؛ فمِنْ جهة، نفهم أنَّ الروميّ يعقد صلة نسب متينة ما بين الخيال، مهما شطح، وبين الواقع. ومِنْ جهة أخرى، يمكن أن نفهم أيضاً أنَّ الخيال نفسه عند الروميّ يمتلك في داخله حقيقته الخاصَّة. الأمر الذي يمكن أن يعدّ فكرة جنينيَّة مبكِّرة لاكتشاف فرويد في ما بعد أنَّ الأحلام والأساطير والآداب والفنون تصلح لأن تُعامل كمادَّة حقيقيَّة قابلة للدرس العلميّ، لأنَّها جميعاً تعبِّر عن حقائق معيَّنة لها صلة متينة بواقع حياة الناس. وهذا بغضّ النظر عن رأينا في مبالغة فرويد في استخدام الدافع الجنسيّ كعامل مفسِّر وموجِّه في كلِّ دراساته، إلى حدِّ أنَّه كاد يبلغ لديه حدود العقيدة الدينيَّة.

ولكن هذه الفكرة الجنينيَّة لربط الخيال بالواقع عند الروميّ، سرعان ما تتراجع، بحكم طبيعة تفكيره الصوفيّ المثاليّ، لتخلي مكانها لنقيضها: 

«إنَّ كلّ صورة رأيتها فجنسها في اللامكان
فلو ذهبت الصورة فلا حزن ما دام أصلها خالداً».

ويضرب الراوي العديد من الأمثلة الأخرى التي تدعم وجهة نظره المؤيِّدة لإطلاق الخيال بشكلٍ حرّ ومحلِّق: «لقد قال النحويّ: "ضرب زيدٌ عمراً". فقال (الأحمق): "ولِمَ أدَّبه بدون جرم؟ ماذا كان جرم عمرو؟ إنَّ زيداً الفظّ قد ضربه بدون جرم كما يُضرب الغلام". فأجابه النحويّ: "إنَّ هذا الكلام مكيال للمعنى، فخذ من المكيال ما به مِنْ قمح، وردّ المكيال! إنَّ زيداً وعمراً هنا وسيلة لتعلُّم الإعراب، ومهما يكن هذا القول كذباً، فاتَّخذه وسيلة إلى الإعراب". فقال الأحمق: "لا! إنَّني لستُ أعرف كيف ضرب زيد عمراً بدون ذنب ولا خطأ!". فانصرف النحويّ إلى اللهوّ ـ بعد أن يأس ـ وقال: إنَّ عمراً كان قد سرق واواً زائدة، وعلم زيد بذلك، فضرب السارق! فما دام قد تجاوز الحدّ، فقد حقَّ عليه الحدّ!»

ويعقِّب الراوي على هذه الحكاية قائلاً: «وأصحاب القلوب الرحبة لهم أياد رحبة، أمَّا مَنْ عميت عيونهم فليس لهم إلا العثار فوق الصخور».

 ويقول الروميّ في إحدى قصائده: «لقد حبست المعنى الحرّ الطليق، وبذلك جعلت الهواء أسيراً للحروف».

وفي حكاية أخرى مِنْ حكايات «المثنوي»، يعثر صوفيّ على سفرة خالية معلَّقة بمسمار، فيأخذ بالدوران حولها وهو يمزِّق ثيابه ويصيح: «يا زاداً لمن لا زاد له، ويا مَنْ أنت الدواء للقحط والآلام». وعندما يراه الصوفيُّون الآخرون ينضمّون إليه ويفعلون مثله «يصيحون بصيحات الوجد ويدقُّون بأقدامهم، حتَّى صاروا بضعة من السكارى فاقدي الوعي».

وفي ذروة «السكر» هذا، تظهر الصورة الأخرى المناقضة، فجأة: «قال أحد الفضوليين للصوفيّ: ما هذا؟ إنَّ السفرة معلَّقة وخالية من الخبز.

فقال له الصوفيّ: اذهب، اذهب، فأنت صورة بلا معنى، وابحث أنت عن الوجود لأنَّك لستَ عاشقاً».

وهنا، ينفتح الباب أمامنا على بعدٍ آخر مِنْ أبعاد الرؤية الفنيَّة للروميّ؛ ألا وهو العشق، أو الاحتراق بلهيب التجربة (كما يقول أدباء زماننا)، والحرارة والصدق:

«إنَّ الروح التي ليس شعارها العشق
من الخير ألا توجد؛ فليس وجودها سوى عار
كن ثملاً بالعشق؛ فإنَّ الوجود كلّه عشق
ومِنْ دون العشق وشؤونه لا سبيل إلى الحبيب».

ويقول عن نفسه:

«أنا ثملٌ بكأس العشق، والعالمان تجاوزا مدى إدراكي.
احتفالات الخمر والعربدة تشغلني عن كلّ شيء،
ولو غفلت لحظة مِنْ عمري دون أن أعيشها، لندمت عن حياتي منذ تلك اللحظة.
ولو غنمت منها لحظة في هذه الدنيا، لسحقت كلا العالمين، ولرقصت ابتهاجاً بهذا النصر العظيم.
فيا شمس تبريز! أنا ثمل في هذا العالم،
وليس لي ما أقول سوى الثمالة والعربدة».

ولكن هذا لا يكفي بالنسبة لجلال الدين الروميّ لصنع فنٍّ جيِّد؛ فعلى الفنّ أن يكون أيضاً مبصراً ومستشرفاً، ولكي يكون كذلك فإنَّ عليه أوَّلاً أن يكون ناقداً: 

«النطق إذا جاء فاضحاً للعيب، فإنَّ مِنْ شأنه أن يمزِّق حجب الغيب».

أمَّا عمليَّة الخلق الفنِّي نفسها، فهي بالنسبة لجلال الدين الروميّ، أبعد مِنْ أن تكون ضرباً من ضروب الترف واللهو؛ إذ هي بالأحرى تمثِّل درجة عالية مِنْ درجات الألم والمعاناة والمخاطرة: 

«إنَّ الدم ليتفجَّر من فمي مع الكلمات».

«أيُّها الفم إنَّك فوهة الجحيم».

وثمَّة بُعد آخر لرؤيته الفنيَّة، يتعلَّق بفهمه للعلاقة بين الشكل والمضمون، وكيفيَّة تعامله مع هذا الأمر في فنِّه؛ فبالرغم مِنْ تكراره الحديث مراراً عن ضرورة أخذ «الحَبّ» وترك «المكيال»، فإنَّه لا يجب أن يخطر في البال أنَّ الروميّ كان ينحاز إلى المعنى على حساب المبنى، أو إلى الشكل على حساب المضمون، أو العكس، فهو في فنِّه يعتني بهما كليهما بالمقدار نفسه، وإن كان يبدو أحياناً، مثلما رأينا في بعض أقواله، كما لو أنَّه ينحاز نوعاً ما إلى المعنى.

ويمكن متابعة استجلاء تفاصيل موقفه مِنْ هذا الموضوع في أقوال أخرى له: 

«اذهب، واسْعَ وراء المعنى، يا عابد الصورة، إنَّ المعنى جناح لجسد الصورة». 

«الصورة تقفز من المعنى كالأسد من الغابة». 

وهو يرى أنَّ للفنَّان دوراً إيجابيّاً في الوصول إلى المعنى: 

«إنَّك حين تطرق باب المعنى يفتح لك». 

ولكنَّه أيضاً يتباهى بقدرته على الابتكار دائماً في الشكل: 

«إنَّني مصوِّر نقَّاش أصنع في كلّ لحظة تمثالاً». 

وتمتدّ هذه المباهاة لتشمل عمليَّة الخلق الفنِّي بمجملها: 

«وإنَّني لأخلق مائة نعش وأبثّ فيها الروح».

ومِنْ ناحية أخرى، لا ينسى جلال الدين الروميّ، بعد ذلك كلّه (بل وقبله أيضاً)، أن يشير إلى تأثير صديقه وأستاذه شمس تبريز فيه:

«إنَّ شمس تبريز قد حرَّك أوتار القيثار في روحي
فلا جرم أنِّي أصبحت أرغنون العشق».

كما لا ينسى أيضاً أن يؤكِّد انتسابه إلى أبرز رموز الشعر الفارسيّ ومنجَزَهم العظيم:

«كان العطَّار وجهاً وسينائي عينيه
ونحن قد جئنا في أثر سينائي والعطَّار».

وأخيراً، نختم بهذا الجانب المثير مِنْ جوانب رؤية جلال الدين الروميّ الفنيَّة:

«لا بدَّ له من الصمت بعض الوقت حتَّى يتعلَّم الكلام».
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال