في الموضوعات
السابقة، المكرَّسة لكشف تفاصيل عمليَّة دمج عالم المخدرات بالبنوك، لاحظنا أنَّ
أوّل هدف من الأهداف الاستراتيجيّة الأربعة لمافيا المخدرات والبنوك هو «المال». المال
الوارد من بيع المخدرات.
وتالياً، يقدّم كاتاسانوف إضاءة على غسيل الأموال وحجمه المفزع وعلاقته بالتشريعات الموجودة وحركته عبر الحدود. (المترجم).
مفهوم «غسيل
الأموال القذرة»
شهد
عقد الثمانينيَّات أوّل استخدام لمصطلح «غسيل الأموال» (money
laundering)، وذلك في الولايات المتّحدة، في الإشارة
إلى عائدات الاتّجار بالمخدّرات، ويعني تحويل الأموال الواردة من عمليّات غير
مشروعة إلى أموال قانونيّة. وقد تمّ اقتراح العديد من التعريفات الأخرى لهذا
المصطلح.
مثلاً،
استخدمت اللجنة الرئاسيّة الأميركيَّة بشأن الجريمة المنظّمة، في العام 1984،
التعريف التالي: «غسل الأموال – هو العمليّة التي تخفي وجود أصلٍ غير قانونيّ أو
استخدام غير مشروع للعائدات، وبعد ذلك يتمّ تمويه هذه الإيرادات على نحوٍ يظهرها
كعائدات ذات أصل شرعيّ».
في
القانون الدولّي، يردُ التعريف المفصَّل لقوننة («غسل») عائدات الجريمة وعمليّات
وسبل قوننة هذه الأموال في اتفاقيّة فيينا أو ما يُسمّى باتفاقيّة الأمم المتّحدة
لمكافحة الاتّجار غير المشروع بالمخدّرات والمؤثّرات العقليّة، المؤرّخة بـ19
كانون الأوّل عام 1988، التي كان لها تأثير كبير على وضع التشريعات المناسبة في
الدول الغربيّة.
لقد صنَّفت
اتفاقيّة فيينا «غسيل» الأموال المتأتيّة من الاتّجار غير الشرعيّ بالمخدّرات
بوصفه جريمة. بالمقابل، أدّى تطوّر الجريمة المنظّمة إلى نموّ إيرادات المنظّمات
الإجراميّة مِنْ أنشطة الجريمة الأخرى (تجارة الرقيق والدعارة، والاتّجار في
الأعضاء البشريّة والاتّجار غير المشروع بالأسلحة، والابتزاز، والتجارة السريّة
بالموادّ الخطرة المشعّة وغيرها). وخضع جزء مِنْ هذه الإيرادات أيضاً لـ«غسل
الأموال» وتمّ ادخاله في قطاعات الاقتصاد القانونيّة .
لقد
اعتبرت اتفاقيّة مجلس أوروبّا رقم 141 «المتعلّقة بغسيل وتفتيش وضبط ومصادرة
عائدات الجريمة»، الموضوعة بتاريخ 8 تشرين الثاني/نوفمبر 1990، في عداد الجرائم،
ليس فقط عمليّات «غسيل» الأموال المتأتيّة من الاتّجار بالمخدّرات، بل وكذلك
الأموال المتأتيّة مِنْ كلّ الأنشطة الإجراميّة الأخرى. وتحدّد المادّة 6 من
الاتفاقيّة رقم 141 قائمة الجرائم المتّصلة بـ«غسيل» الأموال. لكن تشريعات البلدان
ذات العلاقة تتمايز بالمقام الأوّل في تعريف لائحة الجرائم التي تُعتبر المصدر
والمنشأ للأموال الشرعيّة. في بعض البيئات القضائيّة تندرج تحت تعريف الأموال
«القذرة» كلّ المداخيل، التي يترافق تحصيلها مع أيّ خرق للقانون الجنائيّ. وفي
بعضها الآخر - يقتصر الأمر على تلك المداخيل التي تأتي نتيجة لانتهاكات جنائيّة
خطيرة، وفي بيئات قضائيّة ثالثة - تندرج ضمن هذا التعريف حتّى تلك الإيرادات
المرتبطة بانتهاكات القانون المدنّي والإداريّ. وفي عددٍ من البلدان تشمل فئة
الأموال «القذرة» أيضاً الأموال التي تمّ الحصول عليها على شكل رشى (الفساد).
حجم
تدفقات الأموال «القذرة»
ترد
الصورة الأكثر اكتمالاً لدخل الجريمة المنظّمة في العالم في تقرير صدر في وقتٍ
متأخّر من العام 2011، وتقرير مكتب الأمم المتّحدة لشؤون المخدّرات والجريمة،
بعنوان «تقييم التدفّقات الماليّة غير المشروعة الناتجة عن الاتّجار غير المشروع
بالمخدّرات والأنشطة الإجراميّة المنظّمة الأخرى».[1]
مجموع
العوائد مِنْ جميع أشكال النشاط الإجراميّ في العالم، خلال العام 2009، وفقاً لذلك
التقرير، كانت قيمتها قريبة من 2،1 تريليون دولار، أي ما يعادل 3،6% من الناتج
المحليّ الإجماليّ العالميّ. ويوفّر التقرير تقييماً أكثر ضيقاً، يشمل عائدات
الجريمة المنظّمة العابرة للحدود. تنتسب لها، في التقرير، تجارة المخدّرات العالميّة،
التزوير، تجارة البشر، الأعضاء البشريّة، والأنواع النادرة من الحيوانات والأسماك
والنباتات والأشجار، والأعمال الفنيّة وموادّ التراث الثقافيّ، والأسلحة الخفيفة.
وتتبقّى
وراء قائمة التقييم الضيّقة للدخول، وفقاً للتقرير، الأموال المرتبطة بشكل رئيسيّ
بالأنشطة غير المشروعة لدول بعينها. وهذه هي عائدات الاحتيال والسرقة والابتزاز
والنهب، الخ. وقد بلغت قيمة العمليّات الإجراميّة العابرة للحدود، وفقاً للتقرير،
حوالي 875 مليار دولار، أو 1،5 % من الناتج المحليّ الإجماليّ العالميّ.
ومِنْ
بين أنواع النشاط الإجراميّ العابرة للحدود في المقام الأوّل تجارة المخدّرات:
التي تجاوزت عوائدها، وفقاً للتقرير، ما لا يقل عن نصف مجموع الدخل، أي بالأرقام
المطلقة، ما يقرب مِنْ 450 مليار دولار، أو 0،75% من الناتج المحليّ الإجماليّ
العالميّ.
وهنا،
ينبغي أن يُنسب تهريب المخدّرات حقاً إلى الجريمة المنظّمة، التي تمتلك درجة عالية
من العمليّات الدوليّة: أكثر مِنْ 90% من «السلع» يتمّ استهلاكها خارج البلدان
التي تنتجها.
ومع
ذلك، هناك في الأدبيّات المختصّة بتجارة المخدّرات العالميّة تقديرات أخرى لعوائد
تجارة المخدّرات. أكثر التقديرات تحفظّاً تشير إلى 400 مليار دولار. أمّا أعلى
تقدير فهو 1،5 تريليون دولار. وبالتالي، فإنّ رقم عائدات الاتّجار بالمخدّرات
الوارد في تقرير مكتب الأمم المتّحدة لشؤون المخدّرات والجريمة، يُعتبر متحفّظاً
جداً. وحيث يقول تقرير الأمم المتّحدة أنّ عوائد تجارة المخدّرات تساوي حوالي نصف
جميع عائدات الجريمة المنظّمة في العالم، فإنّه ينبغي أن يُنظر إلى هذا التقييم
على أنّه تقييم محافظ؛ إذ يمكن أن نصادف في المصادر الأخرى تقديرات أعلى تصل إلى
70% وحتّى أعلى مِنْ ذلك.[2]
ولا
يقترب أّي نوع مِنْ أنواع النشاط الإجراميّ الأخرى، منفرداً، مِنْ حيث قيمة
عوائده، مِنْ معدّل عوائد تجارة المخدّرات، ولا مِنْ نسبة الربحيّة التي تحقّقها
(معدل العائد).[3] على سبيل المثال، كان الدخل السنويّ مِنْ تجارة
البشر في العالم، وفقاً لمكتب التحقيقات الفيدراليّ الاميركيّ (إف. بي. آي) في
منتصف العقد الماضي هو 9 مليارات دولار .[4]
ووفقاً
لصندوق الحياة البريّة العالميّ، بلغ حجم التجارة غير المشروعة في الأنواع البريّة
من الحيوانات والنباتات في منتصف العقد الماضي نحو 6 مليارات دولار، وكان هامش
الربح في هذا العمل في المرتبة الثانية بعد تجارة المخدّرات، وتراوحت بين 500 إلى
1000 في المئة [5].
حجم
«غسيل الأموال القذرة»
ما هو
مصير الأموال المتأتيّة من النشاط الإجراميّ؟ جزء من الأموال «القذرة» يبقى في
مجال الاقتصاد «الأسود» في شكل إنفاق أجور للعمّال العاملين في المجال، ودفع ثمن
«البضاعة» (المخدرات نفسها، التي يزرعها المزارعون) ولشراء الأسلحة، الخ. ويمكن أن
يتدفّق المال «القذر» في نفس الوقت، من واحد من قطاعات الاقتصاد «الأسود» إلى آخر.
وعلى
سبيل المثال، يمكن استثمار أموال المخدّرات في الاتّجار غير المشروع بالأسلحة،
والدعارة، والاتّجار بالبشر، الخ. ومع ذلك، فإنّ معظم الأموال «القذرة» تذهب إلى
عمليّات «الغسل»، التي يمكن القيام بها في البلدان التي يتمّ فيها جني هذه
الأموال، أو في غيرها. ويلاحظ تقرير مكتب الأمم المتّحدة لشؤون المخدّرات والجريمة
أنّ ثلاثة أرباع «الأموال القذرة» المتأتية من النشاط الإجراميّ مِنْ جميع
الأنواع، وثلثي «الأموال القذرة» المستمدّة من النشاطات الإجراميّة العابرة
للحدود، قد مرّت بـعمليّات «الغسيل».
وتتداول
المعلومات الموثّقة، في ما يتعلّق بمستوى «تنظيف» «الأموال القذرة» المتأتّية من
الاتّجار بالمخدّرات، تقديرات تتراوح مِنْ 60 إلى 80%. وفي تقرير مكتب الأمم المتّحدة
لشؤون المخدّرات والجريمة تمّ تحديد هذا المؤشّر، في ما يتعلّق بالدخل المتأتّي مِنْ
تجارة الكوكايين، بما مقداره 62%.
ومن
الجدير بالذكر أنّ مستوى «تنظيف الأموال القذرة»، التي يجنيها تجار الجملة من
الكوكايين، كان أعلى بكثير مِنْ مستوى «غسل الأموال» في تجارة التجزئة: 92 و46%،
على التوالي .
وهذا
ليس مستغرباً: مبلغ الإيرادات التي يمكن أن يحصل عليها تجار الجملة تُقدّر
بالملايين وعشرات الملايين من الدولارات. ومثل هذا المال يخلق حاجة ملحّة
لاستثماره في مكان ما، بينما الاستثمار نفسه يحتاج إلى أموال «نظيفة». بالمقابل،
يقلّ دخل التجار المشاركين بتجارة التجزئة بمرّة أو مرّتين عن ذلك. إنَّ جزءاً كبيراً
مِنْ مثل هذه العائدات يذهب إلى الاستهلاك الشخصيّ (هذا في حالة لم تكن عمليّات
شراء كبيرة جداً)، وجزء منها يعود إلى الاقتصاد «الأسود». وبالعادة، فإنّ تجّار
التجزئة لا يخرجون جزءاً كبيراً مِنْ أموالهم من «الاقتصاد الأسود» أصلاً، حيث
تبقى الأموال «القذرة» هناك في تداول ودوران مستمرّين. هذا النوع من الإنفاق لا
يتطلّب عمليّات «غسيل».
ويقدّم
تقرير مكتب الأمم المتّحدة لشؤون المخدّرات والجريمة بعض التقديرات ذات الصلة
بقطاع الأعمال العالميّ المختصّ بالكوكايين. ويظهر تحليل الأرقام الواردة فيه ما
يلي:
1) إنَّ
الغالبيّة العظمى مِنْ حالات تعاطي المخدّرات، تحدث خارج البلدان، المنتجة للمخدّرات؛
2) خارج
هذه الدول تتشكّل الغالبيّة العظمى من الأرباح الناجمة عن هذا النوع من الأعمال؛
3)
جزء كبير من الأموال الواردة مِنْ تجارة المخدّرات، لا يتمّ تبييضها «غسلها» في
بلدان استهلاك المخدّرات، بل خارجها.
ووفقا
للتقرير، فإنَّ حجم مبيعات التجزئة لهذا النوع من المخدّرات، في العام 2009، بلغ
85 مليار دولار. وفي سياق ذلك يحقّق التجّار (تجّار الجملة وتجّار التجزئة) هوامش
ربح إجماليّة تبلغ 84 مليار دولار (التكاليف المباشرة لإنتاج الكوكايين تبلغ مليار
دولار فقط). وفي هذه الحالة، تمّ تحقيق الغالبيّة
العظمى من الربح الإجماليّ في أميركا الشماليّة (35 مليار دولار) وبلدان أوروبّا
الغربيّة والوسطى (26 مليار دولار). وفي بلدان إنتاج الكوكايين نفسها (أميركا
الجنوبيّة، بما في ذلك منطقة البحر الكاريبي) فقد تمّ تحقيق ربح إجماليّ مقداره
3،5 مليار دولار، أو 4% فقط مِنْ إجمالي أرباح التجارة في هذا النوع من المخدّرات
في العالم.
منطقة
البحر الكاريبي - موقع جذّاب لـ«تنظيف» أموال مهربي الكوكايين «القذرة». ووفقاً
لتقديرات مكتب المخدّرات والجريمة، في العام 2009، بلغ تدفّق أموال الكوكايين
«القذرة» إلى هذه المنطقة حوالي 6 مليار دولار، أو 2،3% من الناتج المحليّ
الإجماليّ للمنطقة. وفي أميركا الشماليّة بلغت 3،3 مليار دولار، مِنْ أميركا
الجنوبيّة – 2،5 مليار دولار، مِنْ أوروبّا الغربيّة والوسطى 0،2 مليار دولار
أميركيّ. مِنْ خلال المقارنة بين هذه الأرقام يتبيّن أنَّ حوالي 10% من الأرباح
الإجماليّة تحقَّق مِنْ بيع الكوكايين في أميركا الشماليّة، وتمّ «غسلها» في منطقة
البحر الكاريبي.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش الكانب:
[1] تقرير حول
«تقدير التدفّقات الماليّة غير المشروعة الناتجة عن الاتّجار بالمخدّرات وغيرها من
الجرائم العابرة للحدود للجريمة المنظّمة». مكتب الأمم المتّحدة لشؤون المخدّرات
والجريمة. فيينا، أكتوبر 2011
[2] أحد المتخصّصين
في مجال الجريمة المنظّمة الدوليّة ميشا. جليني، على سبيل المثال، يقدّر نسبة
تجارة المخدّرات بـ 70٪ (ميشا جليني - الظلّ الرئيسيّ الذي يحكم العالم. - موسكو،
2010، صفحة301).
[3] بيتر رويتر.
«مطاردة الأموال القذرة - مكافحة غسل الأموال». - واشنطن 2004، صفحة 20؛ «ONDCP، ما ينفقه مستهلكو أميركا
على المخدّرات»، واشنطن، ديسمبر 2001، ص. 3. البنك الدوليّ. مؤشّرات التنمية
العالميّة (WDI)، 2011.
[4] «إنَّ الدخل من
الاتّجار غير المشروع بالبشر في العالم هو 9 مليار دولار» // وكالة ريا نوفوستي،
13 يونيو 2006.
[5] «إنَّ التجارة
غير المشروعة بالحيوانات البريّة مربحة أكثر مِنْ تجارة السلاح» // وكالة ريا
نوفوستي، 6 يناير 2005.
*العنوان الأصليّ:
«مافيا المخدّرات العالميَّة والبنوك» - (المدوَّنة).
**الكاتب فالنتين
كاتاسانوف: عضو أكاديميَّة العلوم الاقتصاديَّة والتجاريَّة الروسيَّة. مستشار
سابق في الأمم المتّحدة (إدارة القضايا الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة الدوليَّة).
عضو الهيئة الاستشاريَّة للبنك الأوروبيّ للإنشاء والتعمير. خبير في الاقتصاد
وتحرّكات رؤوس الأموال الدوليَّة، وتمويل المشاريع، وإدارة الاستثمار. مؤلِّف
للعديد من الدراسات. (المترجم)