جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

فالنتين كاتاسانوف** 
ترجمة: ياسر قبيلات ▣

عالم «شركة المخدِّرات العالميَّة»*
في هذا الجزء (الثاني) مِنْ مقالِهِ، «مافيا المخدِّرات العالميَّة والبنوك»، يسلِّط فالنتين كاتاسانوف الضوء على حقائق تبدو غريبة للوهلة الأولى، مع أنَّها على صلة مباشرة مع الواقع المحسوس، لكن المسكوت عنه (المترجم):


المستوى الثالث (الأعلى) مِنْ مافيا المخدِّرات العالميَّة يختصّ بمزاولة مهمّات استراتيجيَّة، مثل: 

أ- غسيل «المال» السائل العائد من بيع «السلع»؛ 


ب- تأمين إدخال العائدات مِنْ بيع «السلع»، في مختلف قطاعات الاقتصاد؛ 


ج- توفير «غطاء» لعمليَّات مافيا المخدِّرات الجارية التي يقوم بها المستوى «الأول»، وخصوصاً المستوى الثاني؛ د- تهيئة ظروف مواتية لتوسيع تجارة المخدِّرات في بعض البلدان.


الأهداف الاستراتيجيَّة وأصحابها الحقيقيون
سنتحدَّث عن أساليب تحقيق البندين الأوَّل والثاني مِنْ مهمات المستوى الثالث (الأعلى) في هرميَّة مافيا المخدِّرات في وقتٍ لاحق. أما بالنسبة للبند الثالث مِنْ مهمات هذ المستوى (أي، تأمين «غطاء» لعمليَّات مافيا المخدِّرات)، فيتمّ استخدام أساليب ووسائل مثل:

- رشوة الموظفين العموميين، المكلَّفين بأعمال مكافحة أنشطة الاتّجار بالمخدِّرات (دوائر الشرطة المختصَّة بمكافحة التداول غير المشروع للمخدِّرات، وخدمات الحدود والجمارك، وما إلى ذلك).

- إدخال واكتساب العملاء داخل الخدمات الحكوميَّة العامة ذات الصلة بمكافحة أنشطة تجارة المخدِّرات.

- تأمين حاجات عصابات المخدِّرات (المجموعات من المستوى الثاني) من الأسلحة، وغير ذلك من التجهيزات التي تحتاجها.

وقد تتضمَّن المهمّة الثالثة (ج)، كذلك، إجراءات لمنع ظهور منافسين جدد في سوق الجملة. ويؤكِّد الخبراءُ أنَّ الأجهزةَ الأمنيَّةَ الحكوميَّةَ تعترض بالعادة، وفي المقام الأوَّل، حُزَمَ «السلع» التي تعود إلى الجماعات الجديدة الطامحة إلى إثبات وجودها في السوق. بينما سوق الجملة هو احتكار لقلّة محدودة، وظهور لاعبين جدد فيه أمر محظور أو مقيَّد بشدّة.

وتتضمَّن المهمّة الرابعة (ز) مجموعة واسعة جدّاً من الأنشطة، في صدارتها الضغط مِنْ أجل إقرار قوانين وتشريعات تسهِّل على المدمنين الحصول على العلاج مِنْ تعاطي المخدرات (وصولاً إلى إضفاء الصفة القانونيَّة الكاملة على تعاطي المخدِّرات)؛ إلى جانب الترويج للمخدِّرات مِنْ خلال وسائل الإعلام.

وتتضمَّن كذلك إزالة جميع القيود المفروضة على حركة البضائع والأموال والأشخاص بين الدول (تحت ستار تحرير التجارة الدوليَّة وتدفّقات رأس المال)؛ وتشجيع إنشاء المراكز الخارجيَّة (لتسهيل غسل أموال المخدِّرات)؛ إلى جانب تنظيم ضغط سياسيّ واقتصاديّ وعسكريّ على الدول التي تحاول تنظيم حملة فعَّالة لمكافحة الاتّجار غير المشروع بالمخدِّرات (ويتمّ مثل هذا الضغط غالباً تحت ستار «مكافحة الإرهاب»).. إلخ.

ومن الأمثلة البارزة على مهمّة خلق ظروف مواتية للتوسّع في الاتّجار بالمخدِّرات في بعض البلدان غزو قوّات حلف شمال الاطلسيّ لأفغانستان في عام 2001  - ظاهريّاً مِنْ أجل «مكافحة الإرهاب»، ولكن في الواقع نجم عن العمليَّة إعادة تنظيم إنتاج المخدِّرات (الأفيون والهيرويين) على نطاق واسع. فإذا ما كانت حركة طالبان قد تسبَّبتْ بانخفاض كبير في زراعة خشخاش الأفيون في البلاد، فإنَّ إنتاج المخدِّرات تضاعف عشرات المرَّات منذ تدخّل قوّات الناتو بحيث تحوّلت أفغانستان إلى أكبر منتج للهيروين في العالم.. حتَّى أنَّ بعض المحلّلين يعتقدون أنَّ «الأعمال الإرهابيَّة»، في 11 سبتمبر 2001، قد صُمِّمتْ في المقام الأوَّل لإعطاء «الضوء الأخضر» لتوسيع عمليَّات تهريب المخدِّرات في جميع أنحاء العالم تحت ستار قوات التحالف الغربيّ.

واحدة مِنْ تلك الدول، التي تنفِّذ حاليّا بفعاليَّة برامج مكافحة الاتّجار بالمخدِّرات، هي إيران. ليس فقط بمنع انتشار المخدِّرات في البلاد، ولكن أيضاً مِنْ خلال المشاركة بنشاط في مكافحة الاتّجار بالمخدِّرات، التي تمرّ عبر أراضيها مِنْ أفغانستان وغيرها من البلدان في آسيا في طريقها إلى أوروبّا. وبالطبع، فإنَّ هذا ليس السبب الأخير الذي يجعل الولايات المتّحدة تلجأ إلى إشاعة أجواء التوتّر حول إيران.
   

شركة المخدِّرات العالميَّة
المستوى الثالث من عالم مافيا المخدِّرات ليس منظَّمة على شبكة مسطَّحة. بل هو تكوين يتمّ تشغيله مِنْ قبل مجموعة ضيّقة جدّاً من الناس. إنّهم مَنْ يمكن أن يطلق عليهم اسم الأوليغارشيَّة العالميَّة. وإذا ما إلتفتنا إلى جون كولمان، المختصّ بمافيا المخدِّرات العالميَّة، وهو أحد أكثر العلماء احتراماً في مجاله، فسنرى أنَّه يسمِّي هذه المجموعة الضيّقة «لجنة الثلاثمائة»، وهي تضمّ رؤساء متوّجين ومصرفيين ورجال دولة وسياسيين - «نخبة النخبة».

ويكتب جون كولمان قائلاً: «مِنْ كولومبيا إلى ميامي، من "المثلَّث الذهبيّ" إلى "الهلال الذهبيّ"، مِنْ هونغ كونغ إلى نيويورك، مِنْ بوغوتا إلى فرانكفورت، فإنَّ الاتّجار بالمخدِّرات، والاتّجار بالهيروين خصوصاً - هي الأعمال التجاريَّة الكبيرة. وأنَّها جميعاً مِنْ أسفلها إلى أعلاها، يسيطر عليها تماماً وبالكامل عدد قليل جدّاً من الأُسر "المحصَّنة" في العالم، ولكلّ مِنْ هذه الأُسر عضو واحد على الأقلّ يمثِّلها في "لجنة الثلاثمائة". تجارة المخدِّرات – ليست تجارة على زاوية الشارع. لقد وظَّفت هذه التجارة الأموال الطائلة والكثير من الخبراء لتضمن سير أنشطتها سيراً هادئاً وخالياً من المتاعب. وهذا تضمنه بشكل كامل تلك الآليَّات وذلك الجهاز الذي يعمل تحت إدارة"لجنة الـ 300"[1]».

الشرط الرئيسيّ لحسن سير هذه «الآليَّة» هو أنَّ مافيا المخدِّرات لديها في جميع دول العالم تقريباً أنصار في مواقع السلطة العليا: «هذه الإمبراطوريَّة الضخمة التي تتاجر بالهيروين والكوكايين فقط. في كلّ بلد، تتمّ إدارتها دائماً من المستويات العليا في السلطة[2]». وبالرغم مِنْ أنَّ أعضاء «لجنة الـ 300» يتبعون أو تسيطر عليهم البنوك الكبرى وشركات التأمين والنفط، والشركات التجاريَّة وغيرها، إلا أنَّ «شركة المخدِّرات العالميَّة» هي الأصل الرئيسيّ لهذه المراكز: «في الواقع، اليوم هي أكبر شركة مستقلّة في العالم، متجاوزة كلّ الآخرين[3]». لقد بدأت «شركة المخدِّرات العالميَّة" في التبلور في القرن الثامن عشر ولا تزال موجودة إلى اليوم.

وتوكل شركة تجارة المخدِّرات العالميَّة لـ«لجنة الـ300» مهامّاً مثل:

1) استلام المال، وهو أمر مفيد لرشوة السياسيين ورجال الدولة، والعسكريين، ووسائل الإعلام وغيرهم من الأشخاص «اللازمين».

2) الإدارة الفعاَّلة لوعي وسلوك الناس بمساعدة المخدِّرات.

3) تخفيض عدد سكّان الأرض إلى المستويات المطلوبة.

ونحن نؤكِّد مرَّة أخرى أنَّ المؤسَّسة الرئيسيَّة في المستوى الثالث هي البنوك، التي مالكو أكبرها ممثَّلون في «لجنة الثلاثمائة».


 البنوك والكارتيلات: تاريخ مشترك
بدأت عمليَّة اندماج البنوك والجماعات المتورِّطة في تجارة المخدِّرات منذ فترة طويلة، منذ حوالي أربعة قرون مضت. في إنجلترا بدأ ذلك مع تحالف شركة الهند الشرقيَّة البريطانيَّة، التي كانت تحظى برخصة ملكيَّة لتجارة الأفيون في الهند وغيرها من المستعمرات. إلى جانب البنوك البريطانيَّة الأولى. مِنْ بينها - بنك إنجلترا، وبنك بارينغ، وفي وقت لاحق - بنك روتشيلد اللندنيّ، وغيرها.

لقد عقَّدت الحرب العالميَّة الثانية، بما فيه الكفاية، إمكانيَّات وفرص مافيا المخدِّرات. وشهد منتصف القرن العشرين انهيار المنظومة الاستعماريَّة البريطانيَّة، في حين تصاعدت حركة التحرّر الوطنيّ في بلدان العالم «الثالث»، ممّا أخلّ بواقع تجارة المخدِّرات الدوليَّة القائمة. بينما تلقَّت تجارة المخدّرات ضربة قويَّة في الصين الاشتراكيَّة (وكانت مزدهرة هناك قبل ذلك لأكثر مِنْ قرنين من الزمان). كما تعقَّدت التبادلات الاقتصاديَّة والماليَّة بين البلدان بفعل الحواجز الكبيرة التي نشأت في زمن الأزمة الاقتصاديَّة والكساد الكبير في ثلاثينيَّات القرن الماضي. وبالنتيجة، تمكَّنت بلدان المعسكر الاشتراكيّ من القضاء على ظاهرة إدمان المخدِّرات، تقريباً على نحوٍ كليّ، على أراضيها.

ومع ذلك، فإنَّ مافيا المخدِّرات في نصف الكرة الغربيّ (أميركا الشماليَّة والجنوبيَّة) لم تتكبَّد خسائر كبيرة. ونشطت المصارف هناك في تقديم «خدمات» «تبييض» أموال المخدِّرات. على سبيل المثال، في العام 1950 ذاع الحديث عن دور ومشاركة «بنك مورغان» («مورغان جارانتي تراست») وآل روكفلر («بنك تشيس مانهاتن») في غسل عائدات عصابات المخدِّرات الدوليَّة المتمركزة في كالي وميدلين[4]. ومع ذلك، كان النظام المصرفيّ، عموماً، حتَّى في نصف الكرة الغربيّ في ذلك الوقت، قادراً على العمل مِنْ دون دعم مِنْ تجارة المخدِّرات.

وفي أوائل عام 2012، أعطى المساعد السابق للأمين العامّ للأمم المتَّحدة وأيضا المدير السابق لمكتب المخدِّرات والجريمة، أنطونيو كوستا، مقابلة صحافيَّة أوجز فيها الخطوات الرئيسيَّة لتشكّل تحالف البنوك ومافيا المخدِّرات في فترة ما بعد الحرب (أربع مراحل[5]).


«العولمة»: نظام الجريمة المنظَّمة
بدأ تحالف البنوك وتجّار المخدِّرات، وفقا لأنطونيو كوستا، في التبلور في ستينيَّات وسبعينيَّات القرن العشرين (المرحلة الأولى). وقال أنطونيو كوستا: «في ذلك الوقت كانت جماعات المافيا تمتلك في أيديها كميَّات كبيرة من النقود السائلة، وفي الحقيقة ليس بقدر ما يتوافر لها الآن، ويرجع ذلك إلى حقيقة أنَّ الجريمة الدوليَّة لم تكن وقد وصلت إلى هذه المستويات التي وصلتها الآن. وهذا يتعلَّق أساساً بالمافيا الإيطاليَّة، والأميركيَّة الشماليَّة وبعض العصابات الإجراميَّة الأخرى، التي كانت مكوَّنة مِنْ نطاق ضيِّق من العناصر الإجراميَّة».

والمرحلة الثانية، وفقاً لكوستا، بدأت مع أواخر السبعينيَّات وفي وقت مبكِّر من الثمانينيَّات، «ثمَّ، بالتوازي التدريجيّ مع فتح الحدود، وتوسيع العلاقات الاقتصاديَّة والتجاريَّة في أواخر السبعينيَّات وبداية الثمانينيَّات، عمدت الجريمة المنظَّمة التي أطلقت أنشطتها خارج إيطاليا، إلى استخدام النظام المصرفيّ لنقل الحسابات ونقل الأموال مِنْ جميع أنحاء العالم».

وألاحظ أنَّه في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة تلجأ إلى تشغيل مطبعة النقود بكامل طاقتها (بعد تفكيك نظام بريتون وودز النقديّ)، بدأت عمليَّة تحرير حركة المال الدوليَّة (إزالة القيود المفروضة على الحركة عبر الحدود على رأس المال في العديد من البلدان الغربيَّة)، وبدأ السوق الماليّ العالميّ ينمو بسرعة، وبدأت تظهر أسواق «الأوف شور» في جميع أنحاء العالم. وبدأت الدول تتَّجه للخروج من الاقتصاد («التاتشرية» في المملكة المتَّحدة، «ريغان» في الولايات المتَّحدة). كلّ هذا سهَّل للجريمة المنظَّمة (بما في ذلك عصابات المخدِّرات) عمليَّة إنشاء شبكة ماليَّة دوليَّة.

ويربط أنطونيو كوستا المرحلة الثالثة مع إنشاء البلدان المتقدِّمة اقتصاديّاً لنظام دوليّ لمنع غسل الأموال. كان حجم هذه الأموال «القذرة» قد بلغ حدّاً هدّد الاستقرار الداخليّ لبلدان الغرب. وهنا، كان هناك دور خاص، للمؤسَّسة التي تمَّ تأسيسها في ذلك الوقت باسم FATF - مجموعة العمل الماليّ لمكافحة غسل الأموال (Financial Action Task Force).

ويلاحظ أنطونيو كوستا أنه في ذلك الوقت تمَّ تحقيق نجاحات ملموسة في مجال مكافحة غسل الأموال والاتجار بالمخدرات: «بفضل ما تملكه من صلاحيات خاصة، بدأت مجموعة العمل المالي FATF باتخاذ الإجراءات.. ونتيجة لذلك، انخفض غسل الأموال الجنائية من خلال النظام المصرفيّ بشكل كبير». هذه المرحلة في مخطَّط أنطونيو كوستا تغطّي فترة التسعينيَّات من القرن العشرين.

ومع ذلك، لا أستطيع أن أتَّفق تماماً مع حقيقة أن تسعينيَّات القرن الماضي كانت فترة من المكافحة الناجحة ضد ّعالم المافيا. ثمَّة نجاحات محليَّة حصلت فعلاً، في العديد من الدول التي تنتسب لمنطقة «المليار الذهبي» (الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية)، إذ تحديداً في تلك التسعينيّات سُنّت قوانين لمكافحة غسل الأموال[6]. و«تبييض» أموال المخدرات في بعض الدول الغربية تضاءل فعلاً، ولكن بالمقابل، انتقلت مراكز «غسل» الأموال إلى بلدان العالم الثالث، وظهرت مراكز «أوف شور» جديدة، وفي البلدان الاشتراكية السابقة، نشطت السلطات بتفكيك نظام سيطرة الدولة على التدفقات المالية المحلية والدولية.

لا ينبغي لنا أن ننسى أن تلك التسعينيَّات مثَّلت ذروة ما كان يُسمّى «العولمة». الكلمة التي يختفي خلفها التحرير الكامل للروابط التجارية والمالية وفتح الحدود أمام تدفّقات السلع والمال والمعلومات والبشر. وكان المعلم الهام في جهود العولمة آنذاك هو إنشاء منظمة التجارة العالمية في العام 1995، التي لديها تفويض لتفكيك الحدود النهائية.

أتريدون معرفة ما هي عواقب هذه العولمة؟

ضبّاط الانتربول يعطون إجابة قصيرة على هذا السؤال: «ما هو جيّد للتجارة الحرّة هو جيّد للمجرمين[7]». ويحاول الخبير في الجريمة المنظّمة «جليني»، في كتابه «ظلال السلطة: من يحكم العالم» أن ينقل الفكرة الرئيسية التالية: السوق العالميّ الموحّد عمل بعزم على تعزيز وضع المجرمين». في أواخر الثمانينيَّات – يكتب - استغرق الغرب في تحرير أسواقه المالية.. وتم إلغاء واحدة من الصلاحيّات الرئيسية للدولة القوميّة - السيطرة السياديّة على التدفّقات النقديّة الواردة والصادرة. ربّما لا تزال الشركات تحتفظ بروابط رمزيّة مع هذه الدولة أو تلك، ولديها أماكن مفضّلة لمكاتبها الرئيسية، ولكنها الآن تطمح إلى الحضور وترسيخ حضورها في أيّ بيئة مربحة. والعولمة أخذت مسارها. وبدأنا نسمع لدى المجموعات الجنائيّة الدوليّة التي تعيش تحت الأرض صوت فرقعة زجاجات الشمبانيا.. إنَّ النمو السريع للجريمة المنظّمة، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعولمة؛ إذ هنا، بالذات، في الخزانات الضخمة للنظام المصرفيّ العالميّ، تختلط الأصول السائلة العائدة للشركات العالميّة بتلك العائدة للجريمة المنظّمة[8]».

وثمّة حقيقة مهمّة للغاية. لقد كتب جليني ما يلي: «في الوقت الذي كان فيه سوق الكوكايين في الولايات المتّحدة يقترب مِنْ نقطة التشبّع، انهار الاتّحاد السوفياتي، وكان سقوطه هبة من السماء للعصابات الكولومبيّة. فجأة، انفتحت امكانيّات ازدهار السوق الأوروبيّ والطرق التي تغذّيه[9]».


المرحلة الأخيرة من الدمج
بدأت المرحلة الرابعة مِنْ دمج البنوك وكارتيلات المخدّرات منذ حوالي عشر سنوات. وهي تعكس الزيادة في درجة التهديد الذي بات تحالف البنوك وتجّار المخدّرات يمثّلونه على الصعيد الدوليّ، بينما تتراجع النجاحات السابقة التي حقّقتها السلطات الوطنيّة والمنظّمات الدوليّة في مجال مكافحة غسل الأموال.

ويكتب أنطونيو كوستا: «بعد سنوات قليلة، (2002- 2003)، جاءت الموجة الأولى من الأزمة، والنظام المصرفيّ الذي توسّع ونما بشكل كبير نتيجة للعولمة، بدأ يتعرّض مرّة ​​أخرى لاختراق من العناصر الإجراميّة. مكافحة عمليّات غسيل الأموال، التي تمّ تطبيقها على نحوٍ فعال في أوروبا وأميركا الشماليّة في التسعينيَّات، ضعفت بشكلٍ كبير بفعل انتشار الكثير مِنْ مراكز "الأوف شور" في الخارج، في مناطق غير نامية. وكان هذا بداية لدورة جديدة من الأموال الإجراميَّة».

لاحقاً، يضرب أنطونيو كوستا مثلاً، حالة بنك واكوفيا الأميركيّ الذي كان قادراً في فترة ثلاث سنوات على غسل ما يقرب من 400 مليار دولار. ويلاحظ أنطونيو كوستا أنَّ الأزمة الماليّة العالميّة أدّت إلى مزيد من توطيد شراكة البنوك وعصابات المخدّرات: «أذهلت الأزمة الماليّة العالميّة في العام 2008 كامل القطاع المصرفيّ عبر الأطلسي. نقص السيولة الذي تزامن مع الأزمة المصرفيّة وإحجام البنوك عن إقراض المال لبعضها البعض إلخ، وفّرت فرصة مثاليّة للهياكل الجنائيّة، التي أكتسبت قوّة ماليّة ضخمة بفضل الأموال التي أمكن غسلها مِنْ خلال النظام المصرفيّ في السنوات السابقة. في الأعوام من 2008-2011 بدأت الجريمة المنظّمة توفّر حاجة القطاع المصرفيّ من النقد والسيولة، مما وفّر ظروفاً جيّدة للغاية، لتغلغل الجريمة المنظّمة في القطاع المصرفيّ».

وبالحديث عن دمج عصابات المخدّرات بالبنوك، تجدر الإشارة إلى أن هذه العمليّة هي حركة بالاتّجاهين. البنوك العالميّة تبحث عن أموال المخدّرات في جميع أنحاء العالم، وتعرض على بارونات المخدّرات «خدماتها» في مجال غسيل الأموال «القذرة» ودمجها لاحقاً في القطاعات «البيضاء» للاقتصاد. ومن جهتها، فإن عصابات المخدّرات، التي طوّرت وتنفّذ سياستها الاستثماريّة، تنظر إلى القطاع المصرفيّ باعتباره مجالاً ذا أولوية.

لقد ذكرنا سابقاً على سبيل المثال كارتيل كالي الكولومبي. وبهذا الصدد يكتب جليني عن هذه المجموعة قائلاً: «إنّ المجال الأوّل الذي قرّر كارتيل مافيا مخدّرات كالي الاستثمار فيه كان البنوك. في العام 1974 أنشأ هذا الكارتيل بنكاً خاصّاً به -  El Banco de los Trabajadores- («بنك العمّال»)، وبدأ في شراء أسهم في البنوك مِنْ جميع أنحاء أميركا الوسطى والجنوبيّة، وبالذات تلك التي ترتبط بعلاقات وثيقة مع بنوك نيويورك وميامي، بما في ذلك «مانيفيتشرنج هانوفر» و«تشيس مانهاتن[10]».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش الكانب:

[1] جون كولمان. «التسلسل الهرميّ للمتآمرين: لجنة الثلاث مئة». مترجم عن الإنجليزيّة. – موسكو، دار «القديم والمعاصر»، 2011، ص. 341.

[2] المرجع ذاته، صفحة 341 -342.

[3] المرجع نفسه، صفحة 342.

[4] إ. ساتون. قوة الدولار. موسكو، دار نشر «الفكرة الروسيّة»، عام 2003، صفحة 159.

[5] الطبعة الإنجليزيّة من المقابلة أنطونيو كوستا على الانترنت Executive Intelligence Review: http://www.larouchepub.com/eiw/public/2012/2012_10-19/2012-17/pdf/0915_3917.pdf .

[6] البلد الوحيد الذي كان يملك قبل تسعينيّات القرن المنصرم تشريعاً لـ «مكافحة غسل الأموال» هو الولايات المتَّحدة.

[7] هـ، ب، مارتن، هـ، شومان. العولمة الغربيّة: الهجوم على الازدهار والديمقراطيّة. موسكو، مترجم من الألمانيّة، عام 2001، صفحة 273.

[8] ميشا جليني. الظلّ الرئيسيّ الذي يحكم العالم. - موسكو، 2010، صفحة 237.

[9] المرجع السابق، صفحة 335.

[10] المرجع نفسه، صفحة.334
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش المترجم:

*العنوان الأصليّ للمقال: «مافيا المخدِّرات العالميَّة والبنوك».

**الكاتب فالنتين كاتاسانوف: عضو أكاديميَّة العلوم الاقتصاديَّة والتجاريَّة الروسيَّة. مستشار سابق في الأمم المتّحدة (إدارة القضايا الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة الدوليَّة). عضو الهيئة الاستشاريَّة للبنك الأوروبيّ للإنشاء والتعمير. خبير في الاقتصاد وتحرّكات رؤوس الأموال الدوليَّة، وتمويل المشاريع، وإدارة الاستثمار. مؤلِّف للعديد من الدراسات. 
ــــــــ
ملاحظة من «المدوَّنة»: تغميق لون الكلمات من «المدوَّنة» وليس من الكاتب أو المترجم.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال