جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣
مدرسة السجن
اجتماع لعدد من السجناء في صالة سينما سجن المحطَّة، وتظهر صورة كاتب المقال في الصفّ الأوَّل - أقصى يسار الناظر إلى الصورة
لقد تشرَّفتُ، ذات زمنٍ بعيد، بالعمل كمعلِّم في مدرسة سجن المحطَّة، عندما كنتُ سجيناً فيه. وقد تولّيتُ، آنذاك، بشكلٍ خاصّ، مهمّة تدريس الصفّ السادس الابتدائيّ (محو أُمِّيَّة)، في تلك المدرسة، كلَّ الدروس المقرَّرة له. وأذكر أنَّه كان مِنْ تلاميذي، في ذلك الصفّ، سجين محكوم بالإعدام بجناية القتل العمد. وقد كتبتُ مِنْ وحي مشاهدتي اليوميَّة له، وتأمّلي الدؤوب لحالته كإنسان ينتظر الموت في أيّ لحظة، وتأثّري العميق بذلك، قصَّتي «رحيل»، ذات الطابع الإنسانيّ الوجوديّ، المنشورة في كتابي «بعد خراب الحافلة». كما كان مِنْ تلاميذي، أيضاً، لصوص محكومون بقضايا مِنْ نوع «الكسر والخلع»، و«السطو المسلَّح»، و«النصب والاحتيال».. الخ؛ وكان منهم، كذلك، سجين محكوم بجناية التعامل مع العدوّ، وآخر كان مناضلاً في تنظيمٍ سياسيّ معروف وأصبح الآن عضواً في قيادته.

وكنتُ، آنذاك، أدرِّس، أيضاً، منهاج التاريخ لصفّ التوجيهيّ، في المدرسة نفسها. وأحد تلاميذي، في ذلك الصفّ، أصبح في التسعينيَّات إعلاميّاً معروفاً، وكان لفترة طويلة مديراً لمكتب إحدى الفضائيَّات العربيَّة الشهيرة في عمَّان.


وكان مِنْ بين زملائي في التعليم في تلك المدرسة (وجميعهم كانوا سجناء): هاشم غرايبة، الأديب الأردنيّ المعروف، وعماد الملحم، وهو الآن معلِّم في التربية. وقد كان دائم الحركة في أرجاء السجن؛ يُدرِّس تلاميذه، ويعلِّم نفسه أشياء كثيرة، ويخدم كلّ مَنْ يحتاج إلى خدمته من السجناء، بغضّ النظر عن أنواع القضايا التي سجنوا بسببها ومواقفه منها. ولذلك، فقد كان هاشم غرايبة يشبِّه عماد بالفراشة لكثرة تنقّله بين أماكن السجن والمساجين. وكان مِنْ زملائي المدرِّسين، كذلك، نبيل الجعنينيّ، رفيقي في الحزب الشيوعيّ الأردنيّ، وابن مدينتي مادبا، الذي كان مسيحاً حقيقيّاً؛ يتفقَّد جميع السجناء، يوميّاً، على اختلاف أسباب سجنهم؛ ويساعدهم، ويرعاهم، ويحلّ مشاكلهم؛ بوصفه، آنذاك، رئيس لجان السجناء المنتخب. وبصفته هذه أيضاً، كان مديراً لمدرسة السجن. وهذا إضافة إلى مشاركته بالتدريس في تلك المدرسة، ومسؤوليَّته عن سينما السجن ومكتبته، وإشرافه على الدورات التثقيفيَّة والتأهيليَّة التي كانت تُعقد في السجن آنذاك. ويجدر بي، هنا، وأنا أكتب مقالي هذا بوساطة الكمبيوتر، بأصابعي العشرة وبسرعة جيّدة، أنْ أشير إلى أنَّني تعلَّمتُ الطباعة بأصولها الصحيحة مِنْ خلال مشاركتي في دورةٍ مِنْ تلك الدورات كانت متخصِّصة بالطباعة وقد دامت ثلاثة أشهر. وكان نبيل، أيضاً، بحكم تخصصّه في المختبرات الطبيَّة، يعمل منفرداً في عيادة السجن.


ولذلك، كلّه، كان السجناء ينتخبونه، باستمرار، رئيساً للجنة الثقافيَّة ولكلّ اللجان الأخرى.


لقد كان سجن المحطَّة، آنذاك، يعيش وضعاً غريباً جدّاً؛ إذ بينما كانت البلاد، بمجملها، ترزح تحت وطأة الأحكام العرفيَّة، وبينما كان البرلمان معطَّلاً، وبينما كانت الأحزاب ممنوعةً (باستثناء «الإخوان المسلمين»)، كان السجناء في سجن المحطّة يملكون حقّ إدارة شؤونهم اليوميَّة المشتركة، وحلّ مشاكلهم بأنفسهم، وتنظيم مسارات حياتهم، وانتخاب ممثّليهم والمشرفين على إدارة شؤونهم الداخليَّة.. مرَّةً كلَّ عام، وينشطون سياسيّاً بصورة علنيَّة، وأحزابهم وتنظيماتهم معترفٌ بها عمليّاً (في السجن فقط، طبعاً).


ويجدر بي، الآن، أنْ أنوِّة بذكاء وحنكة مدير السجن في تلك الفترة، العقيد غالب الضمور، الذي كان مسؤولاً، بشكلٍ خاصّ، عن هذه المفارقة الفانتازيَّة بين سير الحياة في السجن وبين سير الحياة في البلاد ككلّ. أقول ذلك وأنا أتذكَّر أنَّنا كثيراً ما اصطدمنا به، آنذاك، نحن السجناء السياسيين، واشتدَّ الصراع، بيننا وبينه، لأسباب لا مجال لذكرها هنا. وليس نادراً ما وُضع بعضنا بسبب تلك الصراعات في قبو السجن الموحش. بل إنَّ كاتب هذا السطور، نفسه، تشرَّف بالإقامة في ذلك القبو بضع ساعات قبل انتهاء مدَّة محكوميَّته بعدَّة أشهر؛ لكنَّني، رغم ذلك كلّه، أجد أنَّ مِنْ واجبي، الآن، الإفصاح عن إعجابي بأسلوب العقيد غالب الضمور الحكيم ذاك في إدارة سجن المحطَّة، الذي عمل مِنْ خلاله على امتصاص أكبر قدر ممكن من المشاكل التي كان من الممكن لولا ذلك أنْ تقع في السجن. وبالتأكيد، هذا لا ينفي أنَّ كلّ ما تحقَّق للسجناء مِنْ مكاسب وحقوق، آنذاك، رافقته أو سبقته نضالات باسلة وصلبه للسجناء السياسيين.


كانت مدرسة السجن، في ذلك الوقت، تابعة لوزارة التربية والتعليم، وتحديداً لمديريَّة تربية منطقة المحطَّة (خارج السجن). وكان ثمَّة مشرف تربويّ يأتي مِنْ تلك المديريَّة، لزيارة السجن، مِنْ حينٍ لحين، لكي يفحص أوضاع المدرسة ويطَّلع على العمل الجاري فيها. كان اسم ذلك المشرف حمزة منصورة. وهو، نفسه، الأستاذ حمزة منصور القياديّ المعروف الآن في «الإخوان المسلمين» وفي «جبهة العمل الإسلاميّ».


وختاماً أقول: لقد قصرتُ الحديث في مقالي، هذا، على مدرسة السجن؛ أي على المدرسة التي كانت فيه؛ أمَّا السجن، نفسه، كمدرسة، فيحتاج إلى حديثٍ يطول ويطول.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال