جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣


وعدتُ في أكثر مِنْ مقال بالكتابة عن الموسيقار العظيم رياض السنباطيّ، لكنَّني في ما يبدو كنتُ دائماً أؤجِّل الوفاء بهذا الوعد وأكتفي بدلاً مِنْ ذلك بالدوران حول هذا الموضوع وتقسيط ما لديّ مِنْ أفكار ومعلومات وانطباعات عنه في عددٍ من مقالاتي التي كتبتها عن فنَّانين آخرين.
ولا يعود السبب في عدم كتابتي حتَّى الآن عن رياض السنباطيّ وفنِّه إلى وجود موقف سلبيّ لديَّ منه، بل، على العكس مِنْ ذلك تماماً، فالسبب هو أنَّ فنّ رياض السنباطيّ ونمط سلوكه وشخصيَّته كان لهما أعمق الأثر في نفسي ووجداني وذائقتي ورؤيتي لفنّ الموسيقى والغناء منذ فترة مبكِّرةٍ في حياتي.
لقد تعرَّفتُ على فنّ رياض السنباطيّ وأُعجبتُ به وأحببته وأنا لا أزال طفلاً مِنْ خلال غناء أمّ كلثوم، وفي ما بعد مِنْ خلال مقطوعاته الموسيقيَّة وغنائه. حيث بدأتُ بسماع أم كلثوم بشكل منتظم منذ بدايات المرحلة الدراسيَّة الإعداديَّة ولم أُنهِ تلك المرحلة إلا وكنتُ قد حفظتُ معظم أغانيها، بكلماتها وبصيغها اللحنيَّة والموسيقيَّة، وأصبحتُ عند ذاك أتعرَّف بسهولة على كلّ أغنية ما إنْ يبدأ عزف مقدِّمتها الموسيقيَّة، وأعرف اسم كاتبها وملحِّنها.
وشيئاً فشيئاً صرتُ أستطيع تمييز أسلوب كلّ ملحِّن عن أساليب سواه من الملحِّنين. وقد توصَّلتُ في النهاية إلى أنَّ أقربهم إلى نفسي وأكثرهم مساهمة في تشكيل هويَّة أمّ كلثوم الفنيَّة، برأيي، هو رياض السنباطيّ. ذلك لأنَّ معظم الأغاني التي أحببتها لأمّ كلثوم، آنذاك، والتي ميَّزتْ طابع غنائها عن سواه، كانت، كما تبيَّن لي في ذلك الوقت، مِنْ ألحان رياض السنباطيّ.
وبالتالي فقد أصبح هذا الموسيقار العظيم موضع اهتمامي ورحتُ أتقصَّى، بشغف، أيَّة معلومة شخصيَّة أو فنيَّة تتعلَّق به. ولكنَّني، عندئذٍ، واجهتُ مشكلةً كبيرة تتمثَّل في صعوبة إشباع شغفي، ذاك، لأنَّ ما كان يُنشر في المطبوعات الفنيَّة التي كانت تتوفَّر آنذاك وما تبثّه الإذاعات والصحف كان يكاد يخلو مِنْ أيَّة معلومة عن هذا الفنَّان الكبير تتجاوز الإشارة إلى كونه ملحِّن هذه الأغنية أو تلك مِنْ أغاني أم كلثوم.
كلُّ هذا مع أنَّ ألحانه التي كانت تغنِّيها أمّ كلثوم بانتظام مِنْ خلال حفلاتها الشهريَّة الشهيرة كانت تُعتَبر الحدث الفنيّ الأوَّل والأهمّ في مجال التغطية الإعلاميَّة في العالم العربي. ولكن تركيز تلك التغطية كان ينصبّ بشكلٍ كامل على العمل الفنيّ وعلى مؤدِّيته (أمّ كلثوم) مع تجاهل المبدع الأصليّ لهذا العمل (رياض السنباطيّ).
 وهذا في حين كان الإعلام نفسه يتعامل بصورة مختلفة مع الملحِّنين الآخرين، وبوجه خاصّ مع محمَّد عبد الوهَّاب؛ فعندما كان عبد الوهَّاب يُقدِّم لحناً جديداً لأيّ فنَّان أو فنَّانة، ومهما كان مستواه، كان يصبح (عبد الوهَّاب نفسه أوَّلاً ثمَّ لحنه في مرتبة تالية) موضوعاً للثرثرة الإعلاميَّة الكثيفة والمتواصلة والسطحيَّة على الأغلب، وخصوصاً في الإعلام اللبنانيّ الذي كان مهيمناً بشكلٍ واسعٍ آنذاك وكان عبد الوهَّاب يقيم معه صلاتٍ قويَّة وخاصَّة ودائمة.
غير أنَّ هذا الغياب شبه التامّ عن الإعلام الذي كان يحيط برياض السنباطيّ، مقابل الحضور الطاغي لأعماله الفنيَّة، جعله لديّ بمثابة أسطورة حيَّة بدلاً مِنْ أنْ يقلِّل مِنْ شأنه أو يطمس دوره. وكنتُ لذلك أشعر بالأسف العميق وأنا أرى أنَّه يكاد يكون غير موجود بالنسبة لغالبيَّة سامعي ومحبِّي غناء أم كلثوم. بل ولقد كان الكثيرون مِنْ هؤلاء يجهلون أنَّ معظم الأغانيّ التي كانوا يحبّونها لأمّ كلثوم إنَّما هي مِنْ ألحان رياض السنباطيّ، وكان بعض هؤلاء يجهلون حتَّى أنَّه يوجد ملحِّن كبير اسمه رياض السنباطيّ.. الخ. وهذا كلّه طبعاً مقابل الضجَّة الكبيرة التي كانت تُثار حول عبد الوهَّاب بحق وبدون حق.
وأذكر، على سبيل المثال، كيف تواصل الحديث لسنوات طوال عن «الحدث الفنيّ الخطير» المتمثِّل بتلحين عبد الوهَّاب، لأوَّل مرَّة في حياته، في أواسط ستينيَّات القرن الماضي، أغنيةً لأمّ كلثوم؛ وكيف كان يجري تقييم ذلك على أنَّه انعطافةً فنيَّة كبرى في مسيرتها الفنيَّة، مع أنَّ الأغاني التي لحَّنها عبد الوهَّاب لأمّ كلثوم (ومِنْ ضمنها تلك الأغنية) هي في أفضل نماذجها بمستوى متوسِّط إذا ما قيستْ بألحان ملحِّني أمّ كلثوم الثلاثة الكبار: رياض السنباطيّ ومحمَّد القصبجيّ وزكريّا أحمد. هؤلاء الذين تشاركوا بنسب متفاوتة في صنع الهويَّة الفنيَّة النهائيَّة لأمّ كلثوم خلال العقود الثلاثة التي سبقتْ قيام عبد الوهَّاب بتلحين أوَّل أغنية لها. وهي كذلك ليست أفضل مِنْ ألحان مَنْ كانوا يُسمّون آنذاك بجيل الشباب: بليغ حمدي ومحمَّد الموجي.
 وأنا طبعاً لا أقلِّل مِنْ أهميَّة محمَّد عبد الوهَّاب، فقد كان مغنِّياً ممتازاً خلال الثلاثينيَّات والأربعينيَّات من القرن الماضي. وقد تميَّزتْ الألحان التي صاغ بها أغانيه الخاصَّة في تلك الفترة بالقوَّة والجمال وروح التجديد والابتكار. ولكن في ما بعد أصبح ميله للتجديد شكليّاً إلى حدٍّ بعيد ومفرغاً من المضمون، في مقابل تتابع الانجازات الفنيَّة المهمَّة لعددٍ من الفنَّانين الكبار الذين كان يقف في مقدِّمتهم رياض السنباطيّ.
ويبدو أنَّ هذا دفعه (عبد الوهَّاب) أكثر فأكثر لتوثيق علاقته بالإعلام، وخصوصاً الإعلام اللبنانيّ، وصار يغالي في تسويق صورته الشخصيَّة والفنيَّة مِنْ خلاله، ويهتمّ بأنْ يكون كلّ ما يُقدَّم عنه في هذا المجال إيجابيّاً وخالياً مِنْ أيَّة تقييمات أو إشارات سلبيَّة وبأنْ لا يفوق حجم ونوع المادَّة الإعلاميَّة المقدَّمة عن سواه من الفنَّانين حجم ونوع المادَّة الإعلاميَّة المقدَّمة عنه. في حين اختار رياض السنباطيّ أنْ يركِّز على فنِّه وأنْ يبتعد تماماً عن الإعلام؛ فلا مقابلات صحفيَّة أو إذاعيَّة أو تلفزيونيَّة تقريباً، ولم يكن معنيّاً بتسويق صورته أو حتَّى أعماله الفنيَّة وإنَّما تركها هي تسوِّق نفسها بنفسها. وكان يفصل بحزم بين حياته الشخصيَّة وبين عمله الفنيّ.
لقد كانت البداية المعروفة لهذا السلوك المختلف لرياض السنباطيّ هي عندما نشرتْ بعض الصحف خبر خطبته على زوجته في أواسط الثلاثينيَّات مقروناً بصورة شخصيَّة له؛ إذ غضب كثيراً بسبب ذلك وانعزل تماماً عن الناس وعن الوسط الفنيّ لوقت طويل. ذلك لأنَّه رأى في هذه العمليَّة انتهاكاً فضّاً لحياته الشخصيَّة وابتذالاً لها، بخلاف الفهم السائد الذي يخلط ما بين حياة الفنَّان الشخصيَّة وبين عمله الفنيّ.
وبعد ذلك، عندما هدأ غضبه وعاد للإنتاج الفني، اختار أنْ يفصل بشكلٍ صارم ما بين عمله الفنيّ وبين حياته الشخصيَّة وشخصه وحدَّد علاقاته وصداقاته في الوسط الفنيّ وسواه بما يضمن له الحفاظ على خصوصيَّة حياته الشخصيَّة. وكان أغلب تلك الصداقات، التي احتفظ بها، مع الشعراء وفي مقدِّمتهم أحمد رامي. وحتَّى الحفلات الخاصَّة بالأغاني التي كان يلحِّنها لأمّ كلثوم، كان يتجنَّب حضورها ويكتفي بمتابعتها مِنْ بعيد بواسطة التلفزيون وهو جالس في بيته.
لقد كان يدرك أنَّ الفنّ هو الأبقى وأنَّ الأشخاص فانين، فإذا لم يكن في فنِّهم ما يخلِّدهم فإنَّ الترويج الإعلاميّ لهم في حياتهم لن يحقِّق لهم ذلك بعد فنائهم. أمَّا الحياة الصاخبة للوسط الفنيّ، فقد كان على جفوةٍ تامَّة معها وكان يكرِّس معظم وقته لسماع الموسيقى الراقية وتأليف الألحان الجميلة. وقد عُرف باطِّلاعه الواسع على مختلف أنواع التراث الموسيقي لشعوب الشرق والغرب وتذوّقه الجيِّد لها واستيعابه لجماليَّاتها. ولكنَّه مع ذلك اختار أنْ يطوِّر الموسيقى والغناء العربيّين مِنْ داخلهما وبالالتزام الصارم بخصائصهما وبشروطهما، ساعياً إلى بناء موسيقى كلاسيكيَّة عربيَّة حقيقيَّة.
وها نحن بعد سنوات طويلة مِنْ وفاة رياض السنباطيّ نجد الإعلام في السنوات الأخيرة، وخصوصا منذ الذكرى المئويَّة لميلاده التي مرَّتْ العام الماضي، يعدِّل موقفه منه ويحاول إيفاءه بعض حقِّه الذي قصَّر في إيفائه له في أثناء حياته. وربَّما أنَّ ما كُتب عن رياض السنباطيّ مؤخَّراً يفوق مجمل ما كتب عنه في حياته. بل والطريف أنَّني قرأتُ مؤخَّراً بعض المقابلات الصحفيَّة التي تُنشر لأوَّل مرَّة ويقول كاتبوها أنَّهم أجروها مع رياض السنباطيّ في فترة ما مِنْ حياته!
وُلد رياض السنباطيّ عام 1906 في إحدى قرى محافظة دمياط في مصر ونشأ في مدينة المنصورة، وكان والده الشيخ محمَّد السنباطيّ فنَّاناً معروفاً آنذاك في تلك المنطقة في مجال الإنشاد الدينيّ، ولذلك كان هو المعلِّم الأوَّل لابنه في الغناء وفي العزف على العود. فعندما اكتشف السنباطيّ الأب أنَّ لدى ابنه ميولاً فنيَّة واضحة ولديه صوت جميل وأداء مميَّز أخذ يعلِّمه أصول الغناء والعزف على العود ويشركه في حفلاته.
وفي هذه الأثناء صدف أنْ استمع الفنَّان المجدِّد سيِّد درويش لغناء رياض السنباطيّ فأُعجب به وطلب مِنْ والده أنْ يتركه له ليرعاه ويستفيد بموهبته في أعماله الفنيَّة. إلا أنَّ والده رفض ذلك قائلاً بأنَّه لا يستطيع الاستغناء عن مشاركة ابنه في حفلاته.
وفي ما بعد (عام 1926) أرسله أبوه إلى القاهرة ليقيم عند عمِّه أحمد السنباطيّ ويدرس الموسيقى بأصولها العلميَّة في معهد الموسيقى العربيَّة. ولكن عندما تقدَّم الشاب لامتحان القبول في المعهد، تبيَّن لممتحنيه مِنْ أساتذة المعهد أنَّه، بدلاً مِنْ صلاحيَّته للقبول لديهم كتلميذ، يصلح أكثر مِنْ ذلك للعمل معهم كزميل لهم في التدريس.
وهكذا، قُبل كمدرِّس لمادَّتي العود والأداء، وعمل في هذا المجال لمدَّة ثلاث سنوات، ثمَّ استقال وتفرَّغ للتلحين. ولكنَّه لم يُضع الفرصة في أثناء وجوده في معهد الموسيقى للاستفادة بجوانب علم الموسيقى الأخرى التي لم يكن مطَّلعاً عليها بما يكفي.
ومِنْ بين ألحانه التي لمعتْ في بداياته ولا تزال معروفة حتَّى الآن أغنية «ليه يا بنفسج» التي لحَّنها لصالح عبد الحيّ في أوائل الثلاثينيَّات. وفي منتصف الثلاثينيَّات طلبتْ منه أمّ كلثوم أنْ يلحِّن لها بعض أغنياتها، فكانت بدايته معها أغنية «على بلد المحبوب»، كما يقول معظم المؤرِّخين الفنِّيين؛ في حين قال بعضهم بأنَّ البداية كانت بأغنية «النوم يداعب عيوني».
وقد كان رياض السنباطيّ في بداياته، مثله مثل معظم زملائه في ذلك الوقت، متأثِّراً بالاتِّجاه التجديديّ القويّ الذي قاده محمَّد القصبجيّ، وخصوصاً في ما يتعلَّق بإدخاله للبعد التعبيريّ وللمنولوج في الغناء العربيّ. ومِنْ أبرز علامات تأثّره الواضحة والمبكِّرة بالقصبجي أغنية «أذكريني»، و«أغنية غُلُبتْ أصالح».
في ما بعد، شقَّ السنباطيّ طريقه الخاصّ، وترك بصماته بقوَّة على غناء أمّ كلثوم وعلى مجمل الموسيقى والغناء العربيّين، وجرَّ زملاءه من الملحنين الكبار الذين سبقوه والذين جاءوا بعده للسير في إثره على الطريق نفسه. فهو الذي ابتكر وأرسى تقليد الحفلات الشهريَّة الجماهيريَّة الشهيرة لأمّ كلثوم، ووضعها في حالة اتِّصال مباشر مع الجمهور لتتفاعل معه وتطوِّر أداءها بناء على صورة تجاوبه معها. وهو أوَّل مَنْ صاغ الأغنية الاحتفاليَّة الطويلة ذات المقاطع المتعدِّدة. وبعد ذلك حذا حذوه زميلاه اللذان سبقاه في التلحين لأمّ كلثوم: محمَّد القصبجيّ وزكريَّا أحمد.
وتميَّز رياض السنباطيّ أيضاً بتلحينه للقصائد الفصيحة؛ حيث كانت الكلمات الصعبة والمهجورة تتحوَّل بواسطة ألحانه إلى أنغام جميلة مرهفة سلسة وتنطوي على مضمون شعوري متدفِّق وخيال محلِّق.
ولقد تميَّز رياض السنباطيّ بوجه عامّ بقدرته اللامحدودة على التجديد والتطوير والابتكار في إطار الالتزام التامّ بأصول الموسيقى العربيَّة، وبقدرته أيضاً على التعبير المرهف في إطار قالب فنِّي مشغول جيِّداً، وبقدرته على التعبير الرومانسيّ في إطار مفردات لحنيَّة شديدة التركيب. وقد نوَّع من استخدامه للمقامات الموسيقيَّة العربيَّة. ومثلما وظَّف الطاقة التطريبيَّة للمقامات الطربيَّة إلى أقصى حدّ، برع كذلك في استخدام المقامات غير الطربيَّة ووظَّفها في ألحانه على أحسن وجه.
 لقد بنى أسلوبه الفنيّ الخاصّ باقتدار؛ بحيث أنَّك تستطيع أنْ تتعرَّف عليه بسهولة مِنْ خلال ألحانه. وهو يتسلَّل إلى نفس سامعه بهدوء، ولكن بقوَّة وعمق أيضاً. إنَّه يداور ويناور لكي يتمكَّن في غفلةٍ منك مِنْ تحريك عواطفك الكامنة وتحفيز مخيِّلتك المتكاسلة على الانطلاق بحريَّة تامَّة. وهو يفعل ذلك بصورة متنامية مع كلّ نغمة ومع كلّ مقطع مِنْ لحنه. ثمَّ لا تفطن إلا وقد صعد بك إلى ذرىً لم تكن تتوقَّعها. وبينما أنت في عزّ تألّقك هناك، يعود ليهبط بك هبوطاً سلساً رائقاً، مانحاً إيَّاك الوقت لالتقاط أنفاسك وتأمّل الأخيلة والأحاسيس التي قادك إليها في ذروة لحنه. وما إنْ تنتظم أنفاسك، وتسترخي انفعالاتك وتصفو، حتَّى يعود ليرتقي بك مِنْ جديد إلى ذرىً جديدة من الاندماج العاطفيّ.. وهكذا حتَّى نهاية الأغنية. بل إنَّه كان في بعض ألحانه يجرِّب الاعتماد بالكامل على المستوى الثاني؛ أي المستوى التأمليّ وحده؛ حيث يعقد هدنةً ماكرة مع الأحاسيس المباشرة والسطحيَّة للمتلقِّي، ويغوص في هذه الأثناء عميقاً في الأغوار البعيدة التي تكمن وراءها. وهو في هذه الحالة أشبه ما يكون بهمنغواي في أسلوبه المعروف في الكتابة الذي يُطلَق عليه «تكنيك جبل الجليد العائم».
وللتدليل على مدى أهميَّة مساهمة رياض السنباطيّ في صياغة الهويَّة الفنيَّة لأمّ كلثوم والموسيقى والغناء العربيّين، نورد في ما يلي أسماء بعض الأغاني والقصائد التي لحَّنها لأمّ كلثوم: "سلوا قلبي"، "سلوا كؤوس الطلا"، "رباعيَّات الخيَّام"، "أروح لمين"، "يا ظالمني"، "الحبّ كدا"، "الأطلال"، "قصَّة الأمس"، "لسه فاكر"، "ذكريات"، "شمس الأصيل"، أغار مِنْ نسمة الجنوب"، "هجرتك"، "أراك عصيّ الدمع"، "حديث الروح"، "نهج البردة"، "إلى عرفات الله"، "جدّدت حبّك ليه"، "سهران لوحدي"، "أقبل الليل"، "يا اللي كان يشجيك أنيني"، "يا ليلة العيد أنستينا"، "لا يا حبيبي"، "دليلي احتار"، "فاكر لمّا كنت جنبي"، "هلّت ليالي القمر"، "يا طول عذابي"، "حسيبك للزمن"، "عودّت عيني"، "القلب يعشق كلّ جميل".
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال