جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣

الجدار نهاية طريق مسدود؛

الجدار حصار؛

الجدار إطار؛

الجدار ملاذ؛

الجدار حصن؛

الجدار متكأ للموت الرسميّ؛

الجدار صورة لخوفٍ مرضيّ؛

الجدار فاصل يصل بين حجرات القلب؛

الجدار سقف؛

السماء سقف؛

الأرض جدار؛

الفضاء جدار؛

الكون جدار؛

(في قصة لي، في كتابي «بعد خراب الحافلة»، وهي بعنوان «نافذة»، يحيط جدار؛ سقف رصاصي، بكل شيء، ويصبح من العبث البحث عن نافذة)؛

المسافة جدار؛

الزمن جدار؛

(في قصّةٍ عميقةٍ وجميلةٍ لـ«كافكا»، بعنوان «فأرة»، ثمة فأرة تركض في ممرٍّ طويل.. أظنّها كانت هاربة من قطّةٍ شرسة تلاحقها، لكنَّ الجدران المحيطة بالممرّ تشرع بالإضيقاق تدريجيّاً حولها، إلى أنْ توشك على الانطباق على بعضها البعض، وفي النهاية تجد الفأرة نفسها فريسةً لمصيدة أعدّت لها في آخر ذلك الممرّ)؛

ربما تكون القصّة مغايرة تماماً لما رويته مِنْ ذاكرتي هنا، ولكن المهمّ في الأمر هو الجداران المحيطان بالممرّ والمصيدة التي تنتظر في نهايته. وهذه، بالتأكيد، ليست قصة تلك الفأرة وحدها.

والجدار قد يكون مرئياً وملموساً، وقد يكون خفياً ولكنّه محسوس.

عندما كنّا صغارا كنّا في بعض ألعابنا نرسم دوائر على الأرض حول بعضنا البعض، وإذا ما اكتملت دائرة حول أحدنا، فإنَّه يبقى، بإرادته، حبيس جدرانها الوهميَّة إلى أنْ يتعطَّف الذي رسمها حوله برسم فتحةٍ فيها تسمح له بالخروج منها.

الخوف جدار؛

القوة جدار؛ لكنّ هذا الجدار لا يكون ولا يكتمل إلا إذا وجد له أساساً في نفوس الخائفين؛

والجدران التي تنبني في النفوس تكون في العادة أشدّ وأمتن مِنْ تلك التي تنبني خارجها؛ وهي قد تنبني بإرادة الإنسان أحياناً، وقد تنبني بغير إرادته، أو في غفلة منه، في الكثير من الأحيان؛ قد تكون بقدر حاجته أحياناً، وقد تكون مزيدة عليها، وعبئاً، في الكثير من الأحيان؛

الحب جدار؛

الكره جدار؛

التقاليد والقيم والقوانين جدران؛ وهي كثيراً ما تكون جدراناً للوصل بين الناس ولمنفعتهم، بيد أنها سرعان ما تصبح، في غفلة منهم، جدراناً للفصل بينهم ولتكبيل أرواحهم في معظم الأحيان؛ ذلك أنَّ الناس شديدو الشغف بالجدران منذ أنْ لجأوا إلى الكهوف لأوَّل مرَّة في غابر الأزمان؛ وقد نسوا وظيفتها الأولى، كما هي عادتهم مع كل مبتكراتهم ومكتشفاتهم، وأصبحوا بسبب ذلك لا يعرفون ما هو الحدّ الذي يجب أنْ يتوقَّفوا عنده في إعلاء بنيانها وبسط مساحاتها؛

(في قصة لي أيضا في كتاب «مشي»، يحاول أحدهم أنْ يقطف الثمر الشهيَّ مِنْ أغصان شجرة عالية؛ فيصفّ بعض الحجارة أسفل الشجرة ويرتقي فوقها ليقطف تلك الثمار. وعندما ينتهي منها يبني فوق الحجارة التي صفَّها مدماكا آخر من الحجارة ليقطف ثماراً أخرى من الأغصان الأعلى في الشجرة. ويظلّ يكرّر عمله هذا بصورة مثابرة لكي يصل إلى ثمرٍ أعلى فأعلى إلى أنْ يكتشف في النهاية أنَّ كلَّ ما كان يبنيه كان يتراكم فوق جسده، بحيث أنَّه في النهاية صار بالكاد يستطيع أنْ يتنفَّس).

الحرية فضاء فسيح.. فسيح، لكنه مكتظ بالجدران ومحاط بها مِنْ كلّ الجهات؛ والجهات جدران؛

وهذا العنوان، الذي نكتب تحته، إنما هو جدار أيضاً.. جدار معدّ سلفاً، وكلّ ما نفعله هو أنْ نبحث عن المفردات والمعاني التي نعتقد أنَّها مناسبة ونحشرها في نطاقه؛ مِنْ دون أنْ نكون متأكّدين، في النهاية، هل المفردات والمعاني هي التي تنحشر أم نحن. 
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال