جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣
أفضل مِنْ أن أكون على حق
كنَّا نكمن خلف أحد متاريس الثورة بالقرب مِنْ قصر الشتاء في بتروغراد؛ ناديجدا كروبسكايا وألكسندرا كولنتاي وروزا لكسمبورغ وشخص فوضويّ مِنْ أتباع باكونين.. أطلقنا عليه اسم الأميركيّ؛ لأنَّه كان قبل الثورة يعيش في أميركا، وأنا.

وكان الرصاص يدوِّي حولنا بكثرة بينما نحن نتناقش بحماس في موضوع الحب، محاولين أن نتصوَّر كيف ستكون العلاقة بين الرجل وبين المرأة بعد انتصار الثورة النهائيّ.

أبدتْ كولنتاي انحيازاً تامّاً لفكرة الحبّ الحرّ، لأنَّ الأسرة برأيها هي إحدى مؤسَّسات الملكيَّة الخاصَّة. وقد دعمتْ حجَّتها بأفكار مقتبسة مِنْ فريدريك أنجلز، وخصوصاً مِنْ كتابه "أصل العائلة والملكيَّة الخاصَّة والدولة".

أمَّا "الأميركيّ"، فقد رأى إنَّه على الثورة هدم المؤسَّسات جميعها، لأنَّها تنتمي في الأصل إلى المجتمع الطبقيّ، وأنَّ عليها أن لا تغفل عن نفسها، هي أيضاً، في أثناء سيرورتها، وإلا وقعت أسيرةً لمؤسَّسات جديدة أكثر سوءاً.

ورغم حماس كولنتاي للدفاع عن فكرتها الثوريَّة في الحبّ، إلا أنَّني كنت ألحظ شرودها واستغراقها في التفكير مِنْ حين لحين. بل وكان يبدو لي واضحاً أنَّها كانت مهمومة جدّاً وتشعر بالتعاسة تماماً. 

لم أشأ أن أسألها عمَّا بها؛ فأنا أعرف سبب معاناتها. إنَّه صديقنا "الأميركيّ" نفسه؛ فكثيراً ما ضَبَطَتْهُ مع نساء أخريات في مواقف تثير ريبتها وتشعل نيران غيرتها.. رغم حديثها الحماسيّ المستمرّ عن الحبّ الحرّ. وحين تواجهه بما عرفته أو شاهدته من معلومات ومؤشِّرات ودلائل، فما أسهل ما يجد عذراً أو تبريراً مقنعاً وذكيّاً؛ بحيث أنَّها تصبح، في أكثر الأحيان، هي الملومة والمدانة والتي يجب أن تغيَّر نفسها وتتعلَّم أن تُحسن النيَّة بالآخرين ولا توجِّه لهم الاتِّهامات جزافاً. كما أنَّها، برأيه، تختزن في نفسها الكثير مِنْ رواسب المجتمع القديم، إلى حدّ أنَّها، مِنْ دون أن تفطن، تربط بين الحبّ وبين الملكيَّة الخاصَّة.. الخ. وعندئذٍ لا تجد الكسندرا ما تقوله له؛ فتكبح مشاعرها المضطربة وهي غير مقتنعة تماماً بما سمعته مِنْ حجج ومبرِّرات.

لقد كنتُ أعرف هذا كلَّه لأنَّني كنت وألكسندرا صديقين حميمين؛ فكانت تُسرُّ لي بهمومها ومواجعها. وكنتُ أقول لها دائماً: خذيه كما هو أو اتركيه تماماً. ستكونين واهمة جدّاً إذا ظننتِ أنَّكِ تستطيعين تغييره، وستعانين كثيراً بسبب ذلك.

فكانت تقول لي إنَّها ليستْ غبيَّة بحيث لا ترى واقع حالها مع "الأميركيّ" كما هو فعلاً؛ بل إنَّها كثيراً ما قالتْ لنفسها الكلام نفسه الذي قلتُه لها، أنا، قبل قليل؛ فتقرِّر أنْ تتوقَّف عن مواصلة الحياة معه على هذا النحو؛ بل تقرِّر أنْ تنفصل عنه؛ لقناعتها أنَّه لا سبيل إلى تغييره. وعندئذٍ، تشعر بالراحة لأنَّها حسمتْ أمرها أخيراً وستبدأ صفحة جديدة في حياتها أقلّ عناءً وأقلّ ألماً. لكن، شيئاً فشيئاً، يتصاعد حضوره في نفسها، مِنْ جديد، وبعد ساعتين، أو أقل، تكون قد توصَّلتْ إلى أنَّه من المستحيل عليها الاستغناء عنه. وعندئذٍ، تقرِّر أن تقبله كما هو، وأن تتعايش معه بصورة إيجابيَّة، فتأخذ منه الجوانب المفرحة والممتعة والمريحة، وتتفهَّم الجوانب الأخرى التي لا تعجبها، أو التي تزعجها، أو حتَّى تلك التي لا تفهمها. وعند هذه المرحلة من التفكير، تشعر بأنَّها قد تصالحتْ مع نفسها أخيراً، واستوعبتْ معاني الحياة، جيِّداً، وستتذوّقها بأسلوب الإنسان المجرِّب الخبير؛ لا الغرّ أو الجاهل.

وكنتُ، عادة، أعرف أنَّها وصلتْ إلى هذا الطور من تقلُّبات مشاعرها، ما إنْ أرى لمعاناً شقيّاً في عينيها، وأنَّ حركتها قد أصبحتْ بخفَّة رفرفة فراشة. والحقيقة أنَّ هذا الطور مِنْ أطوار شخصيَّة صديقتي ألكسندرا هو الأحبّ إلى نفسي. وكلَّما رأيتها على هذا النحو، تمنَّيت في قرارة نفسي أن تستمرّ هكذا طوال حياتها. لكنَّها لا تلبث أن تعود إلى صورتها السابقة؛ إنسانة قلقة متألِّمة متردّدة.

قلتُ لها مرَّة: يبدو لي أنَّ عذابكِ يروق لكِ، وأنَّكِ لا تحبِّين "الأميركيّ" إلا لأنَّه يسبِّب لكِ كلَّ هذا الألم.

قالت وهي تبدو مصدومة: هل أبدو لكَ ماشوسيَّة إلى هذا الحدّ؟

ثمَّ أضافت مستدركة: إذا أردتَ الحق أنا نفسي لا أعرف كيف وقعتُ في هذه الدائرة الجهنميَّة. لقد بدا لي (تقصد الأميركيّ)، طيِّباً جدّاً وظريفاً إلى أبعد حدّ عندما تعرَّفتُ عليه أوَّل مرَّة. ولم أكن أكفّ طوال الوقت عن الضحك، أمَّا الآن فقد نسيت كيف يضحك الناس أصلاً وكيف يستمتعون بحياتهم.

صديقتي ألكسندرا إنسانة طيِّبة جدّاً؛ تحبّ الثورة وتعمل مِنْ أجل انتصارها النهائيّ بصورة متواصلة؛ بل إنَّني كثيراً ما كنتُ أراها تتحرَّك للقيام بأعمال مرهِقة تعتقد أنَّها تفيد قضيَّة الثورة؛ ولذلك أسميتها "عاملة النحل".

أمَّا ناديجدا كروبسكايا فكانت طوال الوقت تمسك ببندقيَّتها، وتنظر بانتباه إلى الجهة المقابلة من الشارع التي تتوقَّع أن يُطلّ منها الأعداء. ولكنَّها، كما بدا لي، كانت تولي جزءاً كبيراً من انتباهها للحديث الدائر بيننا عن الحبّ الحر. ولم أعرف، آنذاك، إلى أيّ جانب كانت تقف في هذا الموضوع، كما لم أكن أعرف بأنَّها ستنشر، لاحقاً، كتاباً عن الأيَّام الأولى للثورة بعنوان "البقسماط الأسود"، وأنَّها ستشير فيه إلى هذه الأحاديث التي دارتْ خلف المتراس.

على أيَّة حال، لنترك صديقتيَّ، كولنتاي وكروبسكايا، قليلاً، ولنأتِ إلى روزا لكسمبورغ. لقد استغربتُ وجودها معنا خلف متراس بتروغراد؛ فقلتُ لها: كنتُ أظنّ أنَّكِ سجينة في سجن قلعة فرونكة بألمانيا!

قالت: لا أزال فيه. وكما تعلم فأنا أدخل السجون وأخرج منها باستمرار؛ حتَّى لقد اختلطَ عليَّ الأمر ما بين السجن وبين البيت.

قلت لها: أعرف ذلك، ولكن ما أخبار هانز؟

قالت مهمومة: هانزهن! لا يزال في الجبهة.. على الحدود الألمانيَّة الفرنسيَّة.

كنتُ أعرف أنَّ حبيبها هانز ديفانباخ جُنِّد في الحرب كطبيب، وأنَّها كانت تتبادل الرسائل معه مِنْ سجنها في ألمانيا، وقد قرأتْ لي صديقةٌ مشتركة، ذات مرَّة،  بعض تلك الرسائل.

قلتُ لها: رسائلك لهانز جميلة جدّاً.

أشرق وجهها، فجأة، وقالت لي، بلهجة حماسيّة: أحتفظُ دائماً بمسودَّات منها.

ثمَّ لم تلبث أن سألتني متردِّدة: أتحب أن أقرأ لك بعضها؟

قلت: نعم؛ أحبّ ذلك.

أخرجتْ مِنْ جيب سترتها رزمة ورقيَّة، وراحت تقلِّبها في يدها، ثمَّ انتقتْ بعضها، وأعادت الباقي إلى جيبها، وشرعتْ تقرأ: متى ستُنهون هذه الحرب، لنتمكَّن مِنْ جديد من الاستماع إلى "فيغارو"؟ مع الأسف! أظنّ بأنَّك تتخلَّى لآخرين سواك عن الانتصارات على الفرنسيّين؛ وتكتفي بانتصارات أكثر سلماً وهدوءاً على الفرنسيَّات. أيُّها "السافل" الصغير! بسبب هذا، الحرب لا تتقدَّم! لكنَّني أمنعك مِنْ جميع "الالحاقات".. أتسمع؟ وإنَّني أصرّ قبل كلّ شيء على الحصول على تقرير مفصَّل وعلى اعتراف كامل، مليء بالتوبة.

لم أعرف روزا مِنْ قرب مِنْ قبل، والآن وأنا أستمع إليها شعرتُ بأنَّها إنسانة ظريفة جدّاً وطيِّبة. واستغربتُ كيف أن هذه المرأة اللطيفة المرهفة اشتهرت بالمقابل بمجادلاتها العميقة والقويَّة مع أبرز مفكِّري الماركسيَّة: لينين، كاوتسكي، برنشتاين.. الخ.

وبينما كان الرصاص يتساقط حولنا، راحت روزا تقرأ لي شيئاً تتحدَّث فيه عن "نباتاتها" و"حديقتها" و"غرفتها".. وكلّ هذه الأشياء ـ وهو ما لا بدَّ أن يبدو غريباً ـ كانت تنتمي للسجن. فروزا تعوَّدتْ أنْ تخلط ما بين بيتها وبين سجنها؛ وتسمِّي السجن أحياناً "البيت"، وحتَّى أنَّني أنا نفسي أيضاً كان يختلط عليَّ الأمر وهي تقرأ لي بعض المقاطع من رسائلها التي كانت تتحدَّث فيها مطوَّلاً أيضاً عن العصافير والنحل واليعاسيب ومختلف أنواع الطيور والحشرات التي كانت تؤمّ "غرفتها" في سجن قلعة فرونكة: إنَّ قلبي ليرتعش إثارة ومعاناة لدى سماعي هذا الغناء؛ فأرى وجهاً جديداً لحياتي وللعالم، كما لو كان الغيم يتبدَّد ويسطع على الأرض شعاع شمس برَّاق. واليوم فإنَّ هذا الغناء الرقيق على الحائط، والذي لم يستمر أكثر مِنْ نصف دقيقة، قد ملأ صدري بفيض مِنْ الحلاوة والحنان. وندمتُ فوراً على أيِّ أذىً أوقعته يوماً ببشر، على كلِّ قسوة أحاسيس، أو خواطر، مارستها. وقرَّرت، مرَّةً أخرى، مِنْ جديد، أن أكون طيِّبة، طيِّبة بكلّ بساطة، وبأيِّ ثمن. هذا أفضل مِنْ أن أكون "على حق" وأنْ أحاسِب بدقَّة على كلِّ إزعاجٍ صغير.

وبعد ذلك، راحت تقرأ لي مِنْ رسالة أخرى تتحدَّث فيها عن يعسوب مشاكس!: ربِّي. ربِّي أيّ انفعالٍ عشتُ البارحة! تاه في ممرّ البيت "يعسوب" كبير.. ثوب من الفرو مذهَّب، وراح يرتطم بالنافذة العليا المغلقة ويتمسَّك بالزجاج  متزحلقاً مِنْ أعلى إلى أسفل، مصدراً طنيناً مِنْ صوته الجهير العميق، معبِّراً عن حنقه الشديد، فأحضرتُ فوراً كرسيّاً، وفي غمرة حماسي، أمسكتُ به بيدي العارية، فإذا به يلسعني لسعة انتزعتْ منِّي صرخة. فأحضرتُ عندها منديلاً وأمسكتُ به بعد صراع مرير وانطلقتُ راكضة في طول الممرّ وصولاً إلى باب الحديقة حيث أطلقته. ليتكَ سمعتَ أيّ صراخٍ صدر عن الحشرة الصغيرة المحبوسة في المنديل. كان الصوت الجهير العميق قد تحوَّل فجأة إلى صوتٍ حاد! خفيف. وكأنه اختناق البكاء المؤثِّر لطفلٍ في غمرة الرعب القصوى. كان التعيس يظنُّ ما يجري اعتداءً على حياته، وكان يبكي! لقد أثَّر هذا الصوت الصغير على أعصابي إلى حدّ أنَّ يداي كانتا ترتجفان، فأفلتّه مرَّتين، كان خلالها ينطلق مجدَّداً إلى الحديقة.. ها! كيف انطلق إلى السماء وكيف عاد إليه على الفور الصوت الجهور العميق.. وداعاً.

ولم أستطع أن أفهمها عندما راحت تقرأ مِنْ رسالة أخرى عن يومٍ جميل عاشته في السجن: كنتُ ممدَّدة على كنبة الخيزران. رأسي ملقى بلا حراك، كانت غيوم هائلة، خارقة الأشكال، مبثوثة في كلَّ مكان على الأزرق الصافي، وكنتُ أرى التماع السماء عند محيطها المخرَّم. وكان ضوء الشمس كأنَّه حاشية تحلِّيها مِنْ كلّ الجوانب، كانت ناصعة البياض ولكنَّها في الوسط، كانت تتلوَّن بلون رماديّ يتدرَّج من الفضيّ الشفَّاف إلى اللون القاتم للعواطف. ألاحظتَ مدى جمال وغنى اللون الرماديّ؟ إنَّ فيه نبلاً وهيبة ما، وكثيراً من الإمكانات، وكم أنَّ هذه التلوينات الرماديَّة جميلة حينما تبرز على الخلفيَّة الزرقاء الصافية للسماء. تماماً كما يلائم ثوبٌ رماديّ عيوناً زرقاء غامضة، في الوقت نفسه كانت شجرة الحور الكبيرة في حديقتي تصدر حفيفاً. كانت أوراقها ترتجف، كما في رعشة لذيذة، وتلمع في الشمس. خيِّل لي، خلال الساعات الطويلة التي غرقتُ فيها في أحلام رماديَّة وزرقاء، بأنِّي عشتُ آلاف السنين.

ثمَّ استدركتْ قائلة بأنَّ شيئاً واحداً كان ينغِّص عليها متعتها وسعادتها، آنذاك، هو: أن أنعم لوحدي بكلّ هذا الجمال. أودُّ لو أصرخ بأعلى صوتي مِنْ فوق الحائط: آه أرجوكم، تأمَّلوا هذا النهار الجميل. لا تنسوا، حتَّى إنْ كنتم مشغولين جدّاً، حتَّى إنْ كنتم لا تجتازون هذه الباحة إلا وأنتم في عجلةٍ عملكم اليوميّ، لا تنسوا أنْ ترفعوا رؤوسكم بسرعة وأنْ تُلقوا ولو نظرة على هذه الغيوم الفضيَّة الهائلة وعلى المحيط الأزرق الهادئ الذي يتَّسع فيه. تأمَّلوا، إذاً، الهواء المفعم بالنفس الحارّ لآخر أوراق الزيزفون. والإشراق والروعة التي تضيء هذا النهار. لأنَّ هذا النهار لن يعود أبداً. إنَّه مُهدى لكم كما زهرة في أوج تفتُّحها، ملقاة عند أقدامكم تنتظر أنْ تلتقطوها وتعتصروها على شفاهكم.

وشعرتُ بأنَّني قد أحببتُ روزا جدّاً؛ فتمنَّيت في قرارة نفسي لو أنَّني التقيت بها قبل أنْ يلتقي بها هانز ديفانباخ. وفي هذه الأثناء زحف "الأميركيّ" باتِّجاهي، وقرَّب فمه مِنْ أذني، وسمعته يقول، وسط دويّ الرصاص: أنتَ تظنّ أنَّني أتلاعب بمشاعر ألكسندرا؟

ولم أعلِّق، فتابع قائلاً: أرجو أن تصدِّقني إذا قلتُ لكَ أنَّني أحبُّها كثيراً، وأنَّني أتضايق مِنْ نفسي كلَّما سبَّبتُ لها ألماً. لكنَّني هكذا، لا أستطيع أنْ أكون شخصاً آخر؛ فكلَّما التقيت بامرأةٍ جميلة وجدتني أنجذب إليها. ثمَّ أنَّني لا أحبُّ القيود.. حتَّى لو كانت قيود الحبّ. ولديَّ، كما تعرف، موقف سلبيٌّ مِنْ جميع المؤسَّسات. لذلك أكره أن تتحوَّل علاقتي بمَنْ أحبّ إلى مؤسَّسة.

ولكنّني لم أعلّق أيضاً؛ فمكث عندي، بعض الوقت، ثمّ زحف مبتعداً. وفي هذه الأثناء، جاء مفوَّض الدفاع في حكومة الثورة، ليون تروتسكي، ببزَّته الكاكيَّة الجميلة، فنهضتُ ورحّبتُ به بحرارة، وقال لي وهو يشدّ على يدي: قيل لي أنَّكم مجتمعون في عمّون (يقصد مقهى عمّون في عمَّان)، فرغبتُ بالانضمام إليكم.

قطعتْ سميحة خريس حديثاً موصولاً كانت تديره مع ألكسندرا كولنتاي، ورحَّبتْ بتروتسكي، بينما تحفَّزت روزا لكسمبورغ لإجراء نقاشٍ طويلٍ معه، وابتسمتْ له كولنتاي وهي ساهمة، أمَّا كروبسكايا فقد أخذت استراحة قصيرة من النظر إلى الجهة المقابلة لكنَّها ظلّتْ تشدُّ على بندقيّتها، وتوقَّف هاشم غرايبة عن حديثٍ هامس كان يجريه مع "الأميركيّ".

وبعدما جلس تروتسكي، وجاءه النادل بكأسٍ من الشاي، سألناه عن أخباره وعمَّا يفعله هذه الأيَّام، عدا عن تولّيه مهامّ مفوضيَّة الدفاع، فراح يحدِّثنا عن انشغاله بتأليف كتاب بعنوان "الأدب والثورة"، وقال: أقول في هذا الكتاب: يجانب الصواب مَنْ يقول أنَّ فنّاً يتكلَّم عن العمَّال هو وحده الفنّ الجديد والثوريّ بالنسبة لنا. أمَّا مَنْ يزعم أنَّنا نطالب الشعراء بأنْ يصِفوا فقط مداخن المصانع أو انتفاضة ما على الرأسمال، فباطلٌ زعمه ولاغٍ. صحيح أنَّ الفنّ الجديد لن يمكنه، بحكم طبيعته بالذات، أن لا يضع كفاح البروليتاريا في صدارة اهتمامه، لكنّ سكَّة الفن الجديدة ليست مقصورة على عددٍ معلوم من الأخاديد المرقَّمة، بل على العكس، عليها أن تحرث وتفلح وتقلب الأرض طولاً وعرضاً.

وعندئذٍ فوجئتُ بروزا تقوم، بدلاً مِنْ أنْ تشرع بالنقاش. فقلتُ لها جزعاً: إلى أين؟ قالت وهي تتثاءب: تأخَّر الوقتُ، ويجب أن أعود إلى البيت؛ أعني إلى فرونكة لأكمل مدَّة سجني هناك.

فنهضتُ، وقلتُ معتذراً للآخرين: سأرافقها إلى السجن؛ فلا يجوز أن تعود إلى البيت وحدها وقد حلَّ الليل.

مَنْ قال أنَّ روزا تحبُّ هانز ديفانباخ وليس أنا؟ هانز، أصلاً، قُتِل في الجبهة منذ زمنٍ طويل!
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال