جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣
روزا التي أعني ـ كما لا بدَّ أنَّ كثيرين قد فهموا ـ هي روزا لكسمبورغ. وبالتالي فالحديث لا يدور هنا عن شخصٍ مجهول تمَّ اكتشافه فجأة (وربَّما بالصدفة)، ولا عن شخص كان معروفاً ثمَّ غاب ذكره وانطفأتْ صورته، لسببٍ من الأسباب. 

الأمر يشبه أنْ يكون شخصٌ قريباً منك طوال الوقت، وتراه باستمرار وتلاحظ عمله وحركته بينما أنت مشغول عنه في الواقع بأمرٍ آخر أو مع شخصٍ آخر. 

هكذا كان حال روزا لكسمبورغ إبَّان احتدام النقاشات اليساريَّة حول عددٍ من المواضيع الأساسيَّة؛ حيث لم يكن من الممكن أنْ ْيكون النقاش جديّاً وعميقاً، أحياناً، إذا لم تُستدعَ فيه بعض آراء روزا لكسمبورغ، وخصوصاً في الموضوعات المتعلِّقة بطابع الاقتصاد الرأسماليّ في المرحلة الإمبرياليَّة، أو بالموقف من القوميَّة، أو بفهم العلاقة الجدليَّة بين الذاتي والموضوعي في عمليَّة التغيير الثوريّ؛ أو بالمقارنة بين العفويَّة و"الإرادويَّة"؛ بين دور الجماهير الشعبيَّة ودور التنظيم السياسيّ، أو ما يتعلَّق بمستقبل الرأسماليَّة والاشتراكيَّة.. الخ. 

ولكن كلّ هذه الجدالات التي كانت تُستدعى فيها آراء روزا لكسمبورغ، لخصوصيَّة وتميّز نظرها في المواضيع المطروحة للنقاش، لم تكن تشتمل في الغالب على ما هو أبعد وأوسع وأعمق من الإشارة العابرة إلى بعض العناوين واللمعات واللمحات الغامضة، المقتطعة مِنْ سياقاتها بصورة متعسِّفة. أي أنَّ آراء روزا كانت، آنذاك، تُعطى دوراً ثانويّاً؛ إسناديّاً، أو تكميليّاً، وبتوجّه إيجابيّ نحوها أحياناً، أو سلبيّ أحياناً أخرى، وخصوصاً في ما بتعلَّق بالجوانب التي اختلفتْ فيها مع لينين. إنَّه حضورٌ يشبه الغياب، أو هو حضورٌ يؤكِّد الغياب.

إلا أنَّ الموقف بمجمله تغيَّر تماماً ابتداء مِنْ تسعينيَّات القرن الماضي؛ حيث حظيتْ الأفكار النقديَّة (سمير أمين، تروتسكي، وإلى حدٍّ ما روزا لكسمبورغ) في إطار الماركسيَّة، بفرصة جديدة وكبيرة لإعادة درسها ونقاشها وتمحيصها. وتزايدت أهميَّة هذا النقاش الآن مع صعود عددٍ من الأحزاب اليساريَّة إلى السلطة في عددٍ مِنْ بلدان أميركا اللاتينيَّة وأوروبَّا.

أمَّا إعادة اكتشاف روزا، كما أسميتها، فقد أخذت أشكالاً مختلفة؛ وبالنتيجة، فقد أصبح لدينا أكثر مِنْ روزا تمّت إعادة اكتشافهاَ بالاستناد إلى الاهتمامات المختلفة لكلّ واحد من الأشخاص الذين قاموا بعمليَّة "إعادة الاكتشاف"؛ فَّمنْ كان يهتمّ بموضوع التنظيم، أخذ آراء روزا في هذا المجال وعمل على إبرازها، ومَنْ كان يهتمّ بالاقتصاد السياسيّ، سلَّط الضوء على موضوعات كتابها المعروف بـ"التراكم الرأسماليّ"، وخصوصاً فكرتها القائلة بعدم إمكان وجود رأسماليَّة نقيَّة، أي خالية مِنْ وجود عوامل غير رأسماليَّة فيها أو إلى جانبها. إلا أنَّ هذه العلاقة الطفيليَّة، كما أوضحتْ روزا بدقَّة وبصورة صارمة، لا بدَّ أنْ تصل في النهاية إلى طريق مسدود. 

وهناك مَنً اهتمَّ برأيها حول مستقبل الرأسماليَّة أو الاشتراكيَّة. وقد أبرز سمير أمين في دراساته خلال السنوات الأخيرة مقولة روزا لكسمبورغ الشهيرة بأنَّ البديل الوحيد، موضوعيّاً، للاشتراكيَّة هو البربريَّة (أفضِّل استخدام الهمجيَّة)، وشرح بعمق وبالتفصيل، ما رأى أنَّه مؤشِّرات، في عصرنا الحاليّ، لصحَّة وعمق ودقَّة هذه المقولة. 

وهناك مَنْ ركَّز نظره على صورة روزا المناضلة الباسلة والمقاتلة التي كانت تخرج مِنْ سجن لتدخل آخر؛ حيث جرَّبتْ آنذاك العديد مِنْ سجون دول أوروبَّا الشرقيَّة والغربيَّة؛ فحقَّقتْ أمميَّة السجون مثلما حقَّقتْ بنشاطها الذي امتدَّ مِنْ بولندا وروسيا إلى ألمانيا، أمميَّة الكفاح والأحلام والطموحات. 

وهناك مَنْ اندهش بما اكتشفه مِنْ رهافة حسّ هذه المرأة الصلبة وعمق مشاعرها الإنسانيَّة، في مقابل الصورة النمطيَّة المعروفة عنها كامرأة قويَّة ومشاكسة، اختلفتْ مع أهمّ أقطاب ومفكِّري الماركسيَّة في عصرها. وفي مقابل كتابها "التراكم الرأسماليّ"، المليء بالمعادلات المعقَّدة صعبة الهضم، فإنَّ من الطريف والغريب والممتع أنْ يقرأ المرء رسائلها الرقيقة ذات الأسلوب الأدبيّ الجميل التي كانت ترسلها من السجن إلى حبيبها هانز ديفانباخ وقد كان حينذاك مجنَّداً كطبيب عسكريّ في الحرب العالميَّة الأولى حيث قضى فيها عام 1917. 

والخلاصة هي أنَّه أصبح هناك في النهاية لكلٍّ روزاه، وراح كلٌّ منهم يغنِّي لها على هواه.

رسائل حبّ
ظلَّ هذا الكتاب الذي يحوي "رسائل الحبّ" التي كتبتها روزا لكسمبورغ في السجن لحبيبها هانز ديفانباخ، مركوناً في مكتبتي لمدَّة طويلة، وكنتُ أحياناً عندما يقع نظري عليه بالصدفة أمسكه بيدي وأنظر إليه قليلاً ثمَّ أضعه جانباً. 

وظلَّ الأمر هكذا إلى ما قبل سنوات حيث وجدتني فجأة أمسك به وأشرع بقراءته. وعندما انتهيتُ مِنْ ذلك فوجئت بأنَّني قد تعرَّفتُ إلى امرأةٍ أخرى غير تلك التي كنتُ أظنُّ أنَّني أعرفها. 

المرأة التي كنتُ أظنُّ أنَّني أعرفها هي المرأة المناضلة الجديَّة، الصارمة، التي كانت تخوض جدالات متواصلة حول موضوعات وأفكار كبيرة، والتي لم تكن تهادن خصومها، ولا تجاملهم، ولا تتنازل في مواجهتهم عن أيَّة فكرة مِنْ أفكارها. 

ومع أنَّه نموذج يثير الاحترام في النفس، إلا أنَّه كان في ما يبدو يقف حاجزاً فيما بيني وبين الإقدام على قراءة رسائل روزا لكسمبورغ؛ إذ كنتُ أخشى أنَّها لا تحتوي سوى على كلمات "عاطفيَّة" صارمة، تخلو من الروح لفرط رصانتها و"اتِّزانها". 

إلا أنَّ هذا التصوّر، كما تبيَّن لي لاحقاً، لم يكن سوى انعكاس ساذج وبليد لصورة نمطيَّة بائسة انبنت في فكري عبر تجارب كثيرة مع بعض نماذج اليسار المحليّ الذي يرفع شعارات "ثوريَّة" في السياسة ويتبنَّى في المقابل آراء اجتماعيَّة محافظة. 

بخلاف ذلك، فهذه المرأة، كما تبيَّن لي، كانت ثوريَّة حقّاً في كلّ شيء، مظهراً وجوهراً. أمَّا الصورة النمطيَّة التي عرفتها قبل ذلك فهي عبارة عن مركَّب من الميول الفلاحيَّة المحافظة ومن الأفكار الثوريَّة في الظاهر والمحشورة في الواقع في قوالب ضيِّقة على نحوٍ يتناسب مع النزعة العقليَّة المحافظة.

المهمّ، اكتشفتُ عند قراءة رسائل روزا أنَّها امرأة شغوفة جدَاً بالحياة بكلَ تفاصيلها، وأنَّها شديدة الملاحظة لأدقّ التفاصيل التي تشير إلى سريان الحياة في كلّ شيءٍ مِنْ حولها. وأنَّ هذا الشغف الأصيل والعميق بالحياة يجعلها قادرة على أنْ تتحدَّث وهي في السجن عن نهارات جميلة وبهيجة إلى أبعد حدّ، وأنْ تتحدَّث عن السجن بوصفه بيتها، وعن حديقة السجن بوصفها حديقتها، وعن العصافير والفراشات واليعاسيب والنحل وسواها من الكائنات التي تزور "بيتها" أو "حديقتها" بوصفها صديقاتها، وهي تكاد تميِّز كلّ واحد من هذه الكائنات عن الآخر، وتطلق عليها ما يحلو لها من الأسماء، وتصف أشكالها وشخصيّاتها وتصرّفاتها بصورة دقيقة مثيرة للإعجاب. 

ولقد اندفعتُ بتأثير هذا الكتاب الجميل لكتابة بعض القصص التي كانت روزا لكسمبورغ شخصيَّة أساسيَّة فيها، كما كتبتُ مقالين مطوَّلين، تحدَّثتُ فيهما عن بعض انطباعاتي الحارَّة تجاه رسائلها الجميلة تلك، وعن نظرتها الخاصَّة إلى الأسلوب الأدبيّ في الكتابة. 

وممَّا لفت نظري، بعد ذلك، أنَّ بعض الأصدقاء مِنْ أوساط اليسار ظنّوا أنَّني ابتكرت تلك الصورة عن روزا المرهفة المشاعر، مِنْ خيالي المحض.. لأمرٍ في نفسي! وقد استغربوا تماماً عندما أكَّدتٌ لهم أنَّني لم أفعل سوى أنْ وثَّقتُ ملامح صورة حقيقيَّة.

المهمّ، أيضاً، هو أنَّني اكتشفتُ أنَّ سعدي يوسف كان قد قام، قبل سنوات، بترجمة بعض مقالات روزا، كما أنَّه ترجم وثيقة بعنوان "الساعات الأخيرة مِنْ حياة روزا لكسمبورغ وكارل ليبينيخت"، تتحدَّث عن الأسلوب الذي تمَّ بواسطته اغتيال روزا ورفيقها الثائر الشهير، عن سابق قصدٍ وإصرارٍ وترصّد، بيد الشرطة الألمانيَّة، وتكشف أسماء المتورِّطين المباشرين في هذه الجريمة ومَنْ تحمَّلوا مسؤوليَّة إعطائهم الأوامر لارتكابها. 

وعندئذٍ أثار انتباهي هذا التزامن في الاهتمام بروزا لكسمبورغ. ثمَّ لم ألبث أنْ عثرت في إحدى بسطات الكتب المستعملة في عمَّان على كتاب بعنوان "روزا لكسمبورغ" مِنْ تأليف طوني كليف، وترجمة يوسف إبراهيم الجهمانيّ. وهو صادر عام 1993 عن "دار الحوار للنشر والتوزيع" ـ اللاذقيَّة ـ سوريا. 

كما أنَّني لاحظت في الوقت نفسه أنَّ ترجمات عديدة لأعمال روزا لكسمبورغ وعن حياتها، بدأت تظهر في بعض مواقع اليسار على الانترنت.

ومِنْ ناحية أخرى، إذا ما تذكَّرنا أنَّ "دار الحوار للنشر والتوزيع" إنَّما هي ملك للأديب المعروف الأستاذ نبيل سليمان؛ وأنَّ كتاب "روزاً لكسمبورغ" الصادر عن تلك الدار إنَّما هو كتاب مترجم، فيمكن لنا أنْ نستنتج، بالتالي، أنَّ للأستاذ نبيل سليمان دور أساسيّ في اختيار ذلك الكتاب (ربَّما) والموافقة على نشره (على الأقلّ). 

وهنا، فإنَّني لا أملك إلا أنْ أتساءل عن سرّ هذه العلاقة الوطيدة ما بين روزا لكسمبورغ وبين الأدباء خصوصاً، مِنْ بين جميع أوساط اليسار.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال