جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة


سعود قبيلات ▣
Mahdi Amel and the Critique of Daily Thought
مهدي عامل مفكِّر عربيّ لبنانيَ معروف؛ لكن، لمن لا يعرفه، نقدِّم الملخَّصَ التَّالي عنه:

هو الدّكتور حسن حمدان. ولد في بيروت في العام 1936، ونال شهادتيْ الليسانس والدّكتوراه في الفلسفة مِنْ جامعة ليون في فرنسا. وقد درَّس مادَّة الفلسفة في دار المعلِّمين بقسنطينة – الجزائر، ثمَّ في ثانويَّة صيدا للبنات في لبنان، ثمَّ انتقل للتَّدريس في الجامعة اللبنانيَّة – معهد العلوم الاجتماعيَّة، كأستاذٍ متفرِّغٍ لموادّ الفلسفة والسِّياسة والمنهجيَّات.

وعامل صاحب مشروع فكريّ سياسيّ كبير، سعى، مِنْ خلاله، إلى إعادة صياغة النَّظريَّة والممارسة السِّياسيَّة الثَّوريَّة على نحوٍ يأخذ بعين الاعتبار طبيعة ظروف (وواقع) المجتمعات العربيَّة ومجتمعات العالم الثَّالث بشكلٍٍ عامّ.

وفي سياق مشروعه هذا، أعاد مهدي عامل بناء اللغة؛ فنبش عن مفرداتها، وحدَّثها، واشتقَّ (ونحت) العديد من المفاهيم والمصطلحات الجديدة؛ لينقل بواسطتها، ويوضِّح، أفكاره الجديدة المختلفة عمَّا هو سائد.

وقد تميَّز بدقَّة لغته وعمق أفكاره. الأمر الَّذي نتجتْ عن هويَّة فكريَّة ولغويَّة خاصَّة؛ يمكن الاستدلال عليها بكلّ سهوله عند قراءة أيِّ نصٍّ لهذا المفكِّر الاستثنائيّ.

وهو، إلى ذلك، معروفٌ بأطروحاته المهمَّة حول الدَّولة الكولونياليَّة، والدَّولة الطَّائفيَّة، والممارسة السِّياسيَّة.

وتنمّ أبحاثه ودراساته على جهدٍ كبيرٍ ومثابرٍ، واجتهادٍ حقيقيٍّ وجريء. كما أنَّها تتَّسم بعدم الرُّكون للبديهيَّات المتداولة، وبالاستقصاء عمَّا وراء الظَّواهر، واستجلاء حقيقة المفاهيم والمصطلحات الشَّائعة.

وقد تميَّز بكثرة نشاطه في المجالين العمليّ والفكريّ؛ إلى حدِّ أنَّ بعض رفاقه وصفَه بأنَّه «ورشة عمل هائلة».

ومِنْ مؤلَّفاته:

1. «مقدِّمات نظريَّة لدراسة أثر الفكر الاشتراكيّ في حركة التَّحرُّر الوطنيّ: القسم الأوَّل: في التَّناقض». صدر في العام 1972.

2. ديوان شعر بعنوان «تقاسيم على الزَّمان»، وقد صدر باسمٍ مستعار، هو «هلال بن زيتون». في العام 1973.

3. «أزمة الحضارة العربيَّة أم أزمة البرجوازيَّات العربيَّة». صدر في العام 1974.

4. «مقدِّمات نظريَّة لدراسة أثر الفكر الاشتراكيّ في حركة التَّحرُّر الوطنيّ: القسم الثَّاني: في نمط الإنتاج الكولونيالي». صدر في العام 1976.

5. «النَّظريَّة في الممارسة السِّياسيَّة. بحث في أسباب الحرب الأهليَّة في لبنان». صدر في العام 1979.

6. «مدخل إلى نقض الفكر الطَّائفيّ – القضيَّة الفلسطينيَّة في أيديولوجيَّة البرجوازيَّة اللبنانيَّة». صدر في العام 1980.

7. ديوان شعر بعنوان «فضاء النون». صدر في العام 1984.

8. «في عِلميَّة الفكر الخلدوني». صدر في العام 1985.

9. «في الدولة الطائفيَّة». صدر في العام 1986.

10. «ماركس في استراق إدوارد سعيد». صدر في العام 1986.

11. «نقد الفكر اليوميّ». صدر في العام 1988.

12. وهذا بالإضافة إلى أطروحته للدّكتوراه، وهي بعنوان «محاولة في تكوُّن التَّاريخ». وقد عاد لاحقاً للبحث في هذا الموضوع نفسِه، تحت عنوان «التاريخ في تكوُّنه وتمرحله».

كما أنَّ له العديد من المقالات والدِّراسات المنشورة باللغة العربيَّة وباللغة الفرنسيَّة.

ولقد شكَّل مهدي عامل، بجهده الفكريّ الأصيل، واجتهاده النَّظريّ العميق، علامةً فكريَّة وسياسيَّة لافتة ومهمَّة، خصوصاً خلال عقدي السَّبعينيَّات والثَّمانينيَّات من القرن الماضي. لذلك، ليس من الغريب أنْ ينشغل هذا المفكِّر الحقيقيّ المجتهد برصد أنماط الفكر اليوميّ الزَّائف، فيسلِّط الضوء عليها، وينقدها؛ ثمَّ، زيادة في التَّأكُّد مِنْ أنَّه قام بدوره في مواجهتها، كما يجب، يخصِّص لهذا الغرض أحد مؤلَّفاته.

ويمكن القول إنَّه إذا كان هناك مِنْ مفكِّر ارتبط اسمه بالتَّصدِّي لهذا النَّمط الرَّديء من «الفكر»، فهو حتماً مهدي عامل، أكثر مِنْ أيّ مفكِّر آخر. فقد كرَّس حياتَه الفكريَّةَ والسياسيَّةَ بمجملِها، لنقض الأفكار والمفاهيم والمصطلحات السَّطحيَّة والمبتذلة الَّتي تستمدّ «قوَّتها» مِنْ شيوعها في التَّداول اليوميّ وحده.

ولقد خاض مهدي عامل، في سياق هذا الموقف الثَّابت، الكثيرَ من السِّجالات الفكريَّة العميقة، بالمواجهة مع رموز هذا «الفكر» مِنْ مختلف ألوان الطَّيف السِّياسي والفكريّ العربيّ، بوجهٍ عامّ، واللبنانيّ، بوجهٍ خاصّ.

وفي أثناء ذلك، وبالاستناد إليه، صاغ مشروعَه الفكريَّ الخاصَّ والمهمَّ في مجاليْ النظريَّة والممارسة السِّياسيَّة في العالم العربيّ، محاولاً تخليص هذين الحقلين المهمَّين ممَّا علق بهما مِنْ ميراث الأوهام وقِصَر النَّظر والأميَّة الفكريَّة والجبن والرُّعونة ودناءة المصالح الخاصَّة.

وإلى ذلك كلّه، كان مهدي عامل يحتفظ بدوره النَّشط في مجال الممارسة السِّياسيَّة النِّضاليَّة اليوميَّة في الحزب الشُّيوعيّ اللبنانيّ. الأمر الَّذي جعله يمثِّل نموذجاً مختلفاً بين المفكرِّين والسِّياسيّين العرب؛ وهذا، نفسه، ما قاد في النِّهاية بعض القوى المعادية لكلّ ما كان يمثِّله مِنْ مُثل وقيم وممارسة سياسيَّة شجاعة ونظيفة، إلى أنْ تتربَّص به وتودي بحياته غدراً في 18 أيَّار 1987 في شارع الجزائر في بيروت.

وكتابه «نقد الفكر اليوميّ»، الَّذي نحن بصدده هنا، هو كتابه الأخير، وهو كتاب سجاليّ كان قد باشر كتابتَه في العام 1980؛ وعند استشهاده، لم يكن قد انتهى مِنْه بعد؛ إذ أنَّه، في الفترة نفسِها الَّتي استغرقتها كتابته لهذا الكتاب، كان قد تفرَّغ لإنجاز العديد مِنْ كتبه الأخرى المهمَّة؛ وهذا بالإضافة إلى انغماسه في النَّشاطات النِّضاليَّة اليوميَّة، كما سبق أنْ أشرنا.

وقد قامت «لجنةُ نَشْرِ تراث مهدي عامل»، الَّتي تأسَّست عقب استشهاده، بالجهد الفنِّي الضَّروريّ لتحويل مخطوطة «نقد الفكر اليوميّ» إلى كتاب، وفق ملاحظات وتخطيط مهدي نفسِه، ومِنْ ثمَّ قامت بنشره بالعنوان نفسِه الَّذي وضعه صاحبه.

لكن لفت نظري، بوجهٍ خاصّ، فيما يتعلَّق بعمل هذه اللجنة، فهمُها الغريبُ لما قصده مهدي عامل بمفهوم الفكر اليوميّ؛ إذ بدا لي أنَّه يمثِّل مفارقةً حقيقيَّة مِنْ حيث كونه هو أيضاً يندرج في سياق الفكر اليوميّ!

فاللجنة تلاحظ، في المقدِّمة، الَّتي وضعتها في أوَّل الكتاب لتوضِّح مِنْ خلالها الأسلوب الَّذي اتَّبعته في إعداده، أنَّ مهدي اقتصر في القسم الأوَّل مِنْ كتابه على مناقشة بعض الآراء المنشورة في الصَّحافة اليوميَّة وفي المجلاَّت، لكنَّه في القسم الثَّاني من الكتاب خرج عن هذا المنحى وراح يناقش الأفكارَ والمفاهيمَ الواردةَ في بعض الكتب. وهذا، حسب رأي اللجنة، يُعدُّ خروجاً على السِّياق الَّذي حدَّده عنوان الكتاب «نقد الفكر اليوميّ».

وهكذا، فمن الواضح أنَّ اللجنة تقصر مفهوم الفكر اليوميّ على ما يُنشر يوميّاً فقط! ولذلك، فهي تتوقَّع أنَّ مهدي كان سيغيِّر عنوان الكتاب حتماً لو طالت به الحياة وأصدره بنفسه. وتشير إلى أنَّ تقيّدها بالعنوان لم يكن إلَّا مِنْ باب الوفاء لذكرى المفكِّر الشَّهيد واحترامها لما خطَّته يداه.

وهذا، برأيي، فهم غريب، ويندرج في سياق «الفكر اليومي» الذي نقده مهدي عامل؛ ولذلك، فإنَّ في الأمر مفارقة لافتة فعلاً، كما سبق وأشرت. فالفكر اليوميّ ليس مقصوراً على ما تتضمَّنه المقالات المنشورة في الصَّحافة اليوميَّة والمجلاَّت؛ بل إنَّه قد يكون بين هذه المقالات ما لا ينتمي في مفاهيمه وموضوعاته وأفكاره ومعالجاته إلى «الفكر اليوميّ» ولا يمتّ إليه بأيَّة صلة. وبالمقابل، فقد تكون الكتب، مهما كبر حجمها، ولمعتْ أسماءُ أصحابها، رهينةً لنطاق دائرة هذا «الفكر».

ولا أظنُّ أنَّ هذا كان غائباً عن تفكير مهدي عامل، وهو الَّذي لا يتعامل مع المفاهيم جزافاً أو بصورة سطحيَّة، ولا يركن على الإطلاق للفهم الشَّائع والنَّمطيّ والبديهيّ، بل إنَّ كثرة التَّداول والشُّيوع هي بالنِّسبة إليه ممَّا يدعو إلى الشَّكّ، ويستلزم التَّحرِّي والاستقصاء، أكثر ممَّا يدعو إلى الاطمئنان والرُّكون والقبول والإتِّباع.

والحقيقة، برأيي، هي أنَّ مهدي عامل وجد نفسه مضطرّاً للانتقال إلى نقد «الفكر اليوميّ»، كما هو موجود في الكتب أيضاً، وليس في المقالات فقط؛ كي يكون بحثُه شاملاً ومستوفياً لشروطه الضَّروريَّة. فلا بُدَّ أنَّه اكتشف، في سياق جهده البحثيّ، أنَّ دائرة «الفكر اليومي» أوسع بكثير من النِّطاق الَّذي حدَّده لبحثه في البداية، فما كان مِنْه إلا أن قام بما يقوم به في العادة أيّ باحث مخلص لبحثه عندما يكتشف أنَّ للبحث مساراتٍ أخرى لازمة لم تخطر في باله في البداية، فيبادر عندئذٍ إلى السَّير في هذه المسارات إلى نهاياتها المنطقيَّة.

ونجد مهدي وقد بلغ الثُّلثَ الأخيرَ مِنْ بحثه يقول: «ولإثبات ما نقول، نرانا مرغمين على أنْ نستعين بنصٍّ، ربَّما كانت الاستعانة به – من النَّاحية الشَّكليَّة البحت – خروجاً على قاعدة المنهج الَّذي ارتسمنا في نقد الفكر اليوميّ، وحاولنا – غالباً، لا دائماً – أنْ نتقيَّد به، فلا نستند، في هذا النَّقد، إلَّا إلى كتابات في الصَّحافة اليوميَّة أو الشَّهريَّة. نستبقُ، إذاً، نقدَ القارئ ونعترفُ بأنَّنا خرجنا على قاعدةٍ وضعناها، في بداية البحث، للبحث، فلم نحترمها في سياقه».

وقد استندتْ «لجنةُ نَشْرِ تراث مهدي عامل»، إلى الفقرة السَّابقة، لتدعيم وجهة نظرها الغريبة تلك؛ وهذا مع أنَّ مهدي يتحدَّثُ فيها فقط عن قاعدةٍ وضعها هو لنفسِه، وليس عن القاعدة الوحيدة السَّليمة؛ بدليل أنَّه سمح لنفسِه بتجاوز تلك القاعدة والتَّخلِّي عن قيودها ومحدِّداتها، ما إن اكتشف أنَّ ذلك ضروريّ.

على أيَّة حال، الآن وقد مرَّ حوالي ثمانية عشر عاماً على الاغتيال الغادر لمهدي عامل (عند تاريخ كتابة هذا المقال)، وحوالي سبعة عشر عاماً على صدور الطَّبعة الأولى مِنْ كتابه «نقد الفكر اليوميّ»، فإنَّ هذا «الفكر»، مع الأسف، قد استشرى وشاع؛ وفي المقابل، فقد تراجع الفكرُ الحقيقيُ وانحسرتْ مساحتُه.

وهذا لا يعني أنَّ مساهمةَ مهدي عامل الفكريَّة، وكفاحَه الشُّجاعَ والمبدئيَّ، ضدَّ الفكر اليوميّ ورموزه وإعلامه، كانا بلا معنى ولا طائل؛ كُلُّ ما في الأمر أنَّ العالم وقع، في غفلة مِنْه، ولو بصورة مؤقَّتة بالتَّأكيد، في قبضة القوَّة الدَّوليَّة العظمى الَّتي تملك أكبر ماكينة لنشر الفكر اليوميّ وإشاعته في أبشع صوره وأكثرها ابتذالاً؛ فهي تملك مصلحة حقيقيَّة في رواج وهيمنة مثل هذا «الفكر»، مثلما أنَّ لها مصلحة ثابتة في محاربة أيّ فكر أصيل عميق وإحباطه. إذ أنَّ أطماعها وأهدافها ومصالحها غير المشروعة لا يمكن تبريرها بصورة عقلانيَّة سليمة. ولذلك فما مِنْ بديل أمامها إلا أن تعلي مِنْ شأن «الفكر» الزَّائف الَّذي تستطيع أنْ تستخدمه بسهوله لتبرير ممارساتها البشعة، وتصوير أطماعها الجشعة على أنَّها حقوق ومصالح مشروعة وطبيعيَّة وعادلة، وليس أمامها في الوقت نفسه إلا أنْ تبذل كلّ ما تملك مِنْ جهد ومال وأجهزة لتغييب الفكر السَّليم، الَّذي يقف عائقاً أمامها، ويهدِّدها بأكبر المخاطر.

غير أنَّ هذا كلَّه مؤقَّتٌ، برأيي، قصر الزَّمان أم طال؛ ففي النِّهاية ستدرك الشُّعوب مصالحَها وحقوقَها وما هي فيه مِنْ ظلمٍ وقهرٍ واستلاب، وتتعلَّم كيف تدافع عن نفسِها وتصدّ مستغلّيها وتحصِّل حقوقها. وفي سياق هذه العمليَّة التحرُّريَّة نفسها تتعلَّم كيف تميِّز بين الفكر الأصيل وبين «الفكر» الزَّائف، وتعرف أيُّهما هو الَّذي يعبِّر عنها ويخدمها ويضمن مصالحها، وأيُّهما هو الَّذي يستخدمه أعداؤها ضدّها. وعند ذاك، فإنَّ الجهودَ الفكريَّةَ الَّتي بذلها مهدي عامل، وبذلها مفكِّرون أصلاء آخرون مِنْ مختلف أنحاء العالم، ستتبوأ مِنْ جديد مكانتَها الَّتي تستحق في عقول النَّاس واهتماماتهم في كلّ مكان.

والآن، سنحاول أنْ نستعرضَ، تالياً، بعضَ ملامح الفكر اليوميّ، كما كشفها مهدي عامل:

1. هذا «الفكر»، كما رآه أحد ممثِّليه، «يبدأ من اللغة وينتهي فيها»؛ ويقول مهدي عامل: «لا حياة لفاقد الحياة، فإنْ ألحَّ، استحالت عنده الحياة توقاً إلى ما مات، أو ما يشبه الذَّات في لغةٍ تؤسطر الماضي وترفعه إلى المطلق، وتطمح، في شهوتها الفارغة كتجويف صدى، إلى أنْ يقتصر عليها الوجود في خريطة العدم، فلا يبقى في التَّاريخ من التَّاريخ المتوقِّف عند الآن الذَّاهب في الموت سوى لغة منها تبدأ كلُّ الأشياء، وفيها تسقط كلّ الأشياء، فتنتهي إلى تمارين في الإنشاء يمارسها، في أصفى حالات استمنائه، فكرٌ عاجز عن إدراك العقل التَّاريخي، يستبدل ديالكتيكيَّة عصر الثَّورات بصفرٍ كلِّي يغمر سطح الأشياء، فتحتجب الأعماق، وتحتجب الحركة».

ويقول أيضاً: «في الصِّفر الكلِّي يتوقَّف الزَّمن عن دورانه: لا الماضي يمضي، ولا الآتي يأتي. والزَّمن لا يراوح مكانه. يتصدَّع وينهار، ولا يتَّضح غير المستحيل، مِنْ جهتين معاً: ما كان يتكرَّر لم يعد يتكرَّر، والأفق بلونٍ غامض، إنَّه زمنٌ مكسورٌ مِنْ جهة الماضي، مبتورٌ مِنْ جهة المستقبل، والحاضر فيه يتفتَّت».

«هو فكر ظلاميٌّ يلبس وجه الفكرَ العدميّ».

2. هو فكر يتسلَّح بالوهم ويلجأ إليه، وبالوهم يصطنع التَّنابذ بين السِّياسة وبين الثَّقافة، أو الأدب، أو الإبداع، أو الحريَّة الفرديَّة (للفرد المطلق)، أو الفنّ، أو الحياة، أو اللذَّة.. الخ. وهو لا يدرك أنَّه يلغي بجرَّة قلم صراع الطَّبقات الَّذي هو السِّياسة، ويغرق في الإنشاء ويعلن أنَّها هي الحلّ الأفضل. وعندئذٍ تصبح السِّياسة كلمةٌ جوفاء بعدما أسقط منها أطراف التَّناقض والصِّراع، فيُدخلها في مواجهة كلمةٍ جوفاء أخرى هي "الحياة".»

3. هو فكر لا يحبّ التَّعقيد. يعشق البساطة، فهي تريح. ولذلك فإنَّه يميل إلى الاختزال والتَّبسيط والبداهة، ويتجنَّب الاقتراب من المفاهيم في حال تعبيرها عن الحركة والتَّناقضات.

4. هو فكر لابس وعدميّ؛ لأنَّ لا مصلحة له في الوضوح، كما أنَّه يدرك في قرارة نفسِه أنَّه إلى زوال، مهما امتدَّ الزَّمن وطال.

5. هو فكر يتَّسم بهجومه المركَّز على العقل العلميّ في التَّاريخ والاقتصاد والسِّياسة، وفي الفكر أيضاً والكتابة، باسم الخصوصيَّة أو تفاصيل الحياة، أو المعاش، أو الجزئيّ، أو المصادفة والاحتمال.. الخ.

6. ومع ذلك فهو، في بعض نماذجه، «يتقن استخدام سلاح المنطق، ويجتهد في أنْ يكون مقنعاً. يؤيِّد القولَ بالبرهان حتَّى يكتسب القولُ حجَّةً يقوى بها على واقعٍ يرفضه. يأخذ شكل الفكرَ الاستخلاصيَّ ليوهم بأنَّ لأحكامه سطوة البداهة».

7. يتجاهل هذا «الفكر» علاقات التَّناقض بين المصالح المختلفة، أو المواقع المختلفة؛ فيتعامل معها كما لو كانت علاقات تماثل، مع أنَّه يعترف بالتَّناقض بين الأفكار، لكن «حتَّى التَّناقض هذا ليس فعليّاً، لأنَّه تناقض مجرَّد، يقوم بالفكر وحده، ويزول بالفكر وفي الفكر أيضاً، في تصالح النَّقيضين في الفكرة المطلقة». ويصطنع، بدلاً مِنْ ذلك، نقائضَ زائفةً بين مصالح ومواقع لا أساس حقيقّاً لها. إنَّه فكر تنقصه الشَّجاعة والمصلحة لمواجهة الواقع كما هو؛ مِنْ دون تزييفٍ أو تزويرٍ.

8. الخطابة تقوم في هذا «الفكر» مقامَ البحث والتَّحليل، باعتبارها وجهاً آخر للإنشاء.

9. هذا «الفكر»، عندما يحاولُ أنْ يحلِّل الأفكارَ والظواهر، يرتبك؛ مِنْ حيث هو ينطلق، في تحليله ذاك، مِنْ جهله لمعاني المصطلحات والمفاهيم؛ فيستعملها بغير دقَّة ووضوح، أو بصورة مغايرة لمضامينها الحقيقيَّة.

10. هو «فكر» يكره التَّحليل والفهم والوعي، ويحقد على العقل وكلّ معرفة وفكر. إنَّه فكر تجريبي يقول «بضرورة ترك الكلام للوقائع، أو الأحداث، نفسِها، حتَّى تنطق بلغتِها الَّتي هي لغة تراكمها اليوميّ، دون توسُّطٍ من الفكر أو مِنْ أدواته. فالوقائع ليست بحاجة إلى أيّ فكر يستنطقها، ما دام معناها ظاهراً فيها بشكلٍ مباشرٍ للعين المجرَّدة، والعين هذه ليست بحاجة إلى أيّ مفهومٍ نظريّ تستعين به على معرفة الوقائع، ما دامت المعرفة، بحسب ذلك المبدأ التَّجريبي، تتمّ بالرَّصد وحده».

11. هو «فكر» يتَّسم بالخفَّة والارتباك وعدم الاتِّساق والتَّناقض، ويفتقر إلى الدِّقَّة والصَّرامة والوضوح.

12. هو «فكر» ينبهر بالأحداث الكبيرة انبهاراً يشلّ قدرتَه على التَّحليل؛ فيميل مع الحدث كيفما يميل، ولا يحلِّل، بل يؤكِّد، لأنَّه في عجلةٍ مِنْ أمره.

13. هو «فكر» يشخصِن ما لا يُشخصَن ويجوهِر ما لا يُجوهَر.

14. هو «فكر» غيبيّ يُغيِّبُ التَّاريخَ، ويُقيمُ الصِّراعَ بين ثنائيَّة الخير والشَّر.

وبعد، فلو حاولنا أنْ نستقصيَ كُلَّ أبعاد رؤية مهدي عامل للفكر اليوميّ، فسنحتاج، بالتَّأكيد، إلى مقامٍ أكبر بكثير مِنْ هذا المقام؛ خصوصاً أنَّ معالجته لهذا الموضوع لم تكن مقصورةً على مؤلَّفه الموسوم بـ«نقد الفكر اليوميّ»، بل تجاوزته إلى جميعِ مؤلَّفاتِه وأبحاثِه ودراساتِه.

وفي النِّهاية، نختتمُ بقولٍ شهير لمهدي عامل: «لستَ مهزوماً ما دمتَ تقاوم».

وهو ما انطبقَ، بالفعل، على شخصه وعلى فكره وعلى حياته.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال