جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣
ثمَّة قبر في مقبرة "مليح" محاط بشبك من القضبان الحديديَّة العالية، كلَّما مررتُ به في أثناء مشاركتي في تشييع أحد المتوفّين من القرية، أقف عنده قليلاً فتتداعى في ذهني بعض الذكريات التي تعود إلى أيَّام الطفولة والفتوَّة والشباب المبكِّر.

ذلك القبر هو قبر صديق طفولتي وزميل دراستي في المدرسة الابتدائيَّة والإعداديَّة والثانويَّة الفنَّان الراحل المعروف فارس عوض (السواعدة).
كان فارس وحيد أبويه، وكانت أسرته تسكن في منزلٍ مجاور لمنزل أسرتي في "مليح". وقد كان لنا معاً ومع أصدقاء آخرين من القرية الكثير من ذكريات الطفولة، والصبا، الجميلة والطريفة.
ومنذ بداية حياته كان فارس يتمتَّع بالصفات النمطيَّة المعروفة للفنَّان بشكلٍ عام؛ إذ كان رقيقاً، مسالماً، لطيفاً، نحيل الجسم، ومع ذلك فقد كان يتدبَّر أموره جيِّداً وسط جماعات الفتيان الذين كان بعضهم يميل إلى  التنمُّر، بل والعنف أحياناً.
وأعترف أنَّه لم يخطر في بالي آنذاك أنَّ فارس سيختار الفنَّ طريقاً له في حياته اللاحقة.
بعد المدرسة الثانويَّة، انقطعتْ صلاتنا تقريباً؛ إذا لم يتمكَّن هو من اجتياز امتحان التوجيهي من المرَّة الأولى، كما أنَّ أسرته الصغيرة انتقلتْ للعيش في مادبا، بسبب نقل والده الذي كان ممرِّضاً في عيادة "مليح" للعمل في المركز الصحيّ الحكوميّ في مادبا. وذهب كاتب هذه السطور للدراسة في الجامعة الأردنيَّة، وانخرط هناك في الحياة النشطة والصاخبة للجامعة آنذاك. وبالتالي لم أعد أسمع شيئاً عن أخبار فارس ولا عمَّا آلتْ إليه أموره.
وذات يوم، بعد انتفاضة طلبة الجامعة الأردنيَّة التي وقعت في ربيع العام 1979، كنتُ مختبئاً في أحد الأماكن في عمَّان، قبل اعتقالي بفترة وجيزة، وبينما أنا أحرِّك مؤشِّر المذياع بين أرقام المحطَّات المختلفة، جذبتْ سمعي أغنية أردنيَّة لم أسمعها مِنْ قبل وبدا لي أنَّها ذات سمات مختلفة عمَّا هو شائع مِنْ أغنيات ذلك الزمان؛ فقد كان لحنها يقوم على توظيف رشيق ومدروس للفلكلور الأردنيّ، وكلماتها تستخدم المفردات والصيغ التعبيريَّة المحليَّة بخصوصيَّتها المميَّزة، وكان أداء المغنِّي حلواً وفيه مسحة حزينة تلامس شغاف قلب السامع مباشرة.
كان مطلع الأغنية يقول: "لولا الأمر لله أمرك على راسي".
وعندما انتهتْ قال المذيع، بأنَّ تلك كانت أغنية فارس عوض. وكان ذلك بالنسبة لي مفاجئاً تماماً، لأنَّ أخبار فارس كانت قد انقطعتْ عنِّي منذ سنوات.
بعد ذلك توالتْ أغنيات فارس، وكانت جميعها ناجحة جماهيريّاً وتعبِّر عن هويَّة فنيَّة خاصَّة. أمَّا كاتب هذه السطور، فكان آنذاك قد أودع سجن المحطَّة. وذات يوم أقيمتْ حفلة فنيَّة كبيرة في السجن شارك فيها عددٌ من الفنَّانين الأردنيّين المعروفين ومِنْ ضمنهم فارس عوض. لم أذهب إلى الحفلة خشية أنْ أضع صديق طفولتي وابن قريتي في موقفٍ حرج؛ إذ كان اكثيرون آنذاك يخشون الاحتكاك بالسجناء السياسيّين أو زيارتهم، وقد بلغ الخوف ببعض أقربائي القريبين حدَّ أنَّه امتنع تماماً عن زيارتي طوال السنوات الخمس التي قضيتها في السجن. إلا أنَّ تعامل فارس مع هذا الأمر كان على الخلاف مِنْ ذلك تماماً؛ حيث إنَّه راح يبحث عنِّي بين السجناء الذي حضروا الحفل وعندما لم يجدني امتلك قدراً من الشجاعة جعله يجرؤ على السؤال عنِّي ويطلب لقائي ويدعوني لحضور حفلته.
في ما بعد، تقدَّم فارس مرَّةً أخرى لامتحان التوجيهي وأكمل دراسته الجامعيَّة في الجامعة الأردنيَّة، وحصل منها على شهادة البكالوريوس في أحد تخصّصات كليَّة التجارة. وقد التقيتُ به مرَّاتٍ قليلة بعد خروجي من السجن، وكان آنذاك قد أصبح فنَّاناً مشهوراً تذاع أغنياته الرشيقة ليس فقط في الإذاعة الأردنيَّة (المسموعة والمرئيَّة) بل أيضاً في الإذاعات العربيَّة الأخرى وفي بعض الإذاعات الأجنبيَّة الناطقة بالعربيَّة. وبدا لي في أثناء تلك اللقاءات متحمّساً جدّاً لفنِّه، مليئاً بالأحلام والطموحات. 

وعندما حدَّثته ذات مرَّة عن بعض الملاحظات التي كنتُ قد كوّنتها عن إنتاجه الفنيّ، بدا لي مِنْ ردوده أنَّه كان يعي جيِّداً إيجابيَات وسلبيَّات عمله الفنيّ وأنَّه يسعى باستمرار لتجاوز السلبيَّات وتطوير الإيجابيَّات. 

غير أنَّ الزمن لم يمهله طويلاً؛ إذ بينما هو يقود سيَّارته خارجاً من الإذاعة، بعد تسجيله أغنيته الشهيرة عن "عمَّان"، دهمته سيَّارة "قلاّب" وأودتْ بحياته على الفور، فرحل وهو لا يزال في أوج شبابه. 

ولكنَّه، رغم رحيله المبكِّر، كان قد تمكَّن خلال سنوات قليلة مِنْ تثبيت نفسه وفنِّه كعلامة فارقة في تاريخ الأغنية الأردنيَّة. ولا شكَّ أنَّ ذلك يعود بشكل أساسيّ إلى صوته الحلو، ووعيه، وحماسه لفنِّه وإخلاصه له.. إلى حدّ أنَّني لا أتذكره الآن إلا في صورة إنسان دائم الحركة والانهماك بالتفكير في عمله. 

ولكن يجب أنْ لا ننسى دور الملحِّن الأردني الذي كان له فضل تقديم فارس عوض ورعاية تجربته الفنيَّة وهو الملحِّن المعروف روحي شاهين. ولقد التقيت صدفة بشاهين بعد سنوات طويلة مِنْ رحيل فارس عوض الفاجع، وتبادلنا حديثاً مسهباً وحزيناً عن فنّاننا الجميل الراحل وتجربته وفنِّه والآمال التي كانت معلَّقة عليه. وكان شاهين طوال الوقت يعبِّر عن شعوره بخسارته الشخصيَّة وخسارة الفنّ الأردنيّ عموماً برحيل هذا الفنَّان الطموح، الواعي، والإنسان الطيِّب والجميل.
تعليق واحد
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال