جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣
كنتُ جالساً في صالون بيتي قبل أيَّام، ورحتُ أنظرُ إلى الحائط المقابل بشكل عفويّ.. ثمَّة عدد من الرفوف الخشبيَّة المرتَّبة فوق بعضها البعض وفق نسق خاصّ وقد وُضِعَتْ عليها بعض الصور وبعض التماثيل الصغيرة وأشياء أخرى مماثلة كانت قد أُهديتْ لنا أو أنَّنا كنّا قد أحضرناها خلال إحدى سفراتنا.. فثمَّة تمثال معدنيّ نصفيّ للينين وصورة معدنيَّة بارزة على شكل دائريّ للينين أيضاً، وثمَّة صورة لغيفارا مرسومة على لوحٍ خشبيّ صغير بطريقة الحرق، وثمَّة صورة في برواز صغير لفتىً جنوبيّ أسمر نحيل كنَّا قد دفنَّاه قبل عشرين سنة في ربوة صغيرة في "ذات راس"، ما بين الطفيلة والكرك.

عشرون سنة!

أمعقول أنْ تكون عشرون سنة قد مرَّتْ منذ ذهبنا في موكبٍ طويلٍ طويلٍ لدفن ذلك الفتى العشرينيّ الطيِّب الجميل في مسقط رأسه؟!

بعدها دفنَّا أشياء كثيرة غالية في بلادنا وفي مختلف أنحاء العالم.

لقد كان اسم صديقي ورفيقي القديم الذي دفنَّاه، يوم ذاك، في "بيت راس" هو حمدان الهواريّ. وأنا أعلم أنَّني بهذه الذكرى الحزينة التي اسطِّرها هنا أنبش في الأغوار العميقة لنفوس الكثيرين.. نفوس الآلاف مِنْ أصدقاء ورفاق وزملاء ومعارف ومحبِّي حمدان الهواريّ.. ولكن لا بأس؛ فهي، رغم كلِّ شيء، صورة مشرِّفة ومشرقة مِنْ ذلك الماضي القريب البعيد. لا بأس مِنْ أنْ يتذكَّر الكثيرون أنَّه كان ثمَّة فتىً أسمر جميل اسمه حمدان الهواريّ.

هل نسيناه؟!

كلا؛ ولكنَّنا نحن أنفسنا أصبحنا نَسْيَاً مَنْسيّا.

وحمدان الهواريّ لم يكن شاعراً ولا روائيّاً ولا قاصّاً، ولكنَّه هو نفسه كان قصيدة مليئةً بالمعاني العميقة والنبيلة والصور التي تلامس شغاف القلب، وكان روايةً ملحميَّة وتراجيديا إغريقيَّة وقصَّة تشيخوفيَّة، بل كان قصَّة مكثَّفةً بإيقاعٍ خاطف. ومع ذلك فإنَّني أعرف أنَّ ثمَّة مَنْ سيقول عندما يقرأ كلماتي هذه: ومَنْ هو حمدان الهواريّ هذا؟

وذلك لأنَّ ذاكرتنا الجمعيَّة كانت مِنْ بين الأشياء الكثيرة التي دفنَّاها بعدما دفنّا حمدان. ولكنَّني، مع ذلك، لن أعامل صديقي ورفيقي القديم كما لو كان نكرة مِنْ أجل أنْ أشبع الفضول العابر لهؤلاء. وإذا كانوا لا يعرفونه فهذه مشكلتهم وليست مشكلة حمدان؛ وهذا قصور خطير لديهم في المعرفة وفي معانٍ أخرى كثيرة وليس نقصاً في أهميَّة حمدان.

 على أيَّة حال لا أستطيع أنْ أعدِّد جميع عيوب هؤلاء وأعالجها في هذه العجالة. بدلاً مِنْ ذلك، سأغضّ النظر عنهم وأستعيد بعض الكلمات الطازجة التي كتبها بعض أصدقاء حمدان لحظة رحيله.

كتب صديقنا محمود النوايسة في الرأي يوم الجمعة 1/5/1987، مخاطباً صديقه الراحل: "في زمن عَزَّ فيه الرجال، حيث غدا النفط سيِّداً مطاعاً، والسكينة والتخاذل حكمةً، وحيث غدتْ أيَّامنا أحلك سواداً مِنْ ليالينا.. كانت وصيَّة حمدان أنْ يُلفّ بالعلم الأردنيّ، فمِنْ أيّ صنفٍ من الرجال هذا القرمطيّ؟!

نسي ذاته طوال (29) عاماً وفي اللحظة الأخيرة، كان الإنسان والوطن هما وصيَّته!".

ويخاطب صديقه المسجَّى أمامه قائلاً: "الفرح كلمة باهتة لم تعرفها ولو لحظة. مِنْ أين يأتي الفرح وكلّ تلك الأعباء والأحزان كانت تملؤك مِنْ أخمص قدميك إلى رأسك. لكنَّ الأمل كان يراودك دائماً مع ذلك، ودفعتَ ثمنه باهظاً، ولم تندم، فلغيرك الندم والتأسّي. سنوات عشر مِنْ عمرك الخاطف دَفَعْتَها عربوناً لذلك الأمل الذي ما لبثتَ أنْ تركته حرزاً في ضمير التاريخ وفي حدقاته".

ثمَّ يقول: "ها هو جسدك ممدَّد نلقي عليه نظرتنا الأخيرة. كلّ العيون دامية حزينة. ولكنّ ذكراك حمدان تعيد لعين الأعمى نورها. جَلَدك وصبرك، زرعا في النفوس شجاعة جند يرفعون الرؤوس تحت أزيز الرصاص.

ها أنت ترحل الآن، ولكنَّ ذكراك ستبقى معنا قلباً فقلباً نروي بها ظمأ السنين ونستعيد إنسانيَّتنا ونفكّ قيودنا ونطلق العنان لخيولنا.. مِنْ ديرة "ذات راس" إلى ديرة "بني كنعان".

الصديق الثاني الذي كتب عن رحيل حمدان، كما أذكر، هو محمَّد طمَّليه، ولكنَّني، مع الأسف، لم أعثر لديَّ على نسخةٍ مِنْ مقاله ذاك.

أمَّا الصديق الثالث فهو الشاعر حبيب الزيودي الذي كتب قصيدة مؤثِّرة ومطوَّلة بعنوان "قصيدة حمدان"، وقد نشرها، كما أذكر، في ملحق "الرأي" الثقافيّ، ثمَّ ضمَّنها ديوانه "ناي الراعي" الصادر عن أمانة عمَّان عام 2002. وقد استهلَّ حبيب قصيدته تلك بالإهداء التالي: "إلى حمدان الهواري الموَّال الشجي في روحي والنبض الوفي في عروق الأرض".

ويصف حبيب معاناة صديقه الراحل قائلاً:

"ولا شيء أجمل مِنْ شارع السلط
تسكب عمَّان فتنتها في المساء
فتملؤنا أنجماً ونساءا
وحمدان مبتسماً يتجوَّل
لكنَّني كنتُ ألمح خلف ابتسامته وجعاً غامضاً وبكاءا
وأقرأ في وجهه ما يحيل الغناء عناءا".

وفي العادة يستدعي الموت نقيضه في أسئلة الخلود، خصوصاً حينما يتحوَّل إلى واقعة عيانيَّة تتعلَّق بشخص نعرفه جيِّداً ونحبّه. وأذكر هنا أنَّ رواية "ليلة لشبونة" للكاتب الألماني "إريش ماريَّا رامارك" تقوم بمجملها على هذه الفكرة؛ حيث ينشغل بطل الرواية طوال ليلته الطويلة تلك بالتفكير في كيفيَّة تخليد امرأته التي توفِّيتْ فجأة بواسطة ذاكرته.

أمَّا حبيب فيطرح هذه المسألة بظلالها الوجوديَّة وببعدها السياسيّ على النحو التالي:

"لحمدان ينتصب القلبُ مئذنةً في سفوح القرى وينادي
سأنقش وجهك في كلّ سهلٍ، ووادِ
لعلِّي أرى شجر اللوز يورق
علَّ الشموس التي انطفأتْ في القلوب تضيء سواد القرى. وسوادي
لعلَّ النيام يفيقون مِنْ نومهم. وتفيق بلادي".

ثمَّ ينبري لوصف صديقه الراحل لمن لا يعرفه:

"وحمدان أغنيةً مِنْ أغاني الرعاةِ
يحبّ الغناء كثيراً فيمتزج الدمع بالكلماتِ
ولا يحضر الحبّ إلا إذا خضَّب الشِّعرُ شَعْرَ البناتِ
تتوضأُ في مائه الأغنياتُ
ولا ينحني نخله للغزاةِ.
يحبُّ البلاد التي يتعرَّج في حضنها النيلُ
أو يتوضَّأُ فرسانها بالفراتِ
وكان يغنِّي كثيراً
وكان يصلِّي كثيراً
وكانت فلسطين فاتحة للغناء وفاتحة للصلاة".

أمَّا أغنية حمدان، بحسب حبيب، فهي:

"ألا أيُّها الوطنُ المتدفِّقُ في الروح
يا أعذب الأغنياتِ.
شمالاً تحدّك روحي
 جنوباً تحدّك روحي
وروح الشهيد تحدّك يا وطني مِنْ جميع الجهاتِ".

ويتحدَّث حبيب عن علاقة حمدان الوطيدة بفلسطين وشعبها وقضيّته:

"وكان يقول لنا
إنَّ أرض فلسطين مِنْ أوَّل الدهر شامخةٌ
تنحني الخيل عند مداخلها وتقبِّل أعتابها
وكان يدوخ الغزاة إذا داهموا بابها
وكانت تشمُّ الطريق
فإنْ جاء أبناؤها فاتحين تمدُّ لهم قلبها
وتهيئ محرابها".

ثمَّ يعود للحديث عن واقعة رحيل صديقه:

"وأغفى وما كان في عمره واليا أو وليَّا
ولكنَّه عاش في نبض هذا التراب
على جوعه أردنيّاً وأسلمه روحه أردنيَّا.
سلامٌ على دمه حين مات...
سلامٌ على وجهه حين يبعث حيَّا...".

وعندما ينهي حبيب قصيدته يدرك أنَّ نهايتها ستبقى مفتوحةً بالضرورة على خاتمةٍ مِنْ خارجها:

"ويا ربّ ما عاد في القلب نبض يتمّ القصيدة
قد مسَّني العيُّ. فاحلل إذَنْ عقدةً مِنْ لساني
وهبني الأمانا
ودع نبض شعبي يتمّ القصيدة
فالشعب أفصح منِّي لسانا...".

كُتِبَتْ القصيدة في الفترة الواقعة ما بين نيسان 1988 وشباط 1989، ولم تجد خاتمتها بعد.
qubailat@yahoo.com
تعليق واحد
إرسال تعليق

  1. سلام عليك ....وعلى روح حمدان السلام في الاولين وفي الاخرين .بشير البرغوثي

    ردحذف

إعلان أسفل المقال