جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣

يرى الناس الأحداث التاريخيّة الكبرى (ومِنْ ضمنها الحروب) بكليَّتها ومِنْ خلال تأثيراتها العامَّة ومكانتها في التاريخ؛ فتبدو مثل كتلة صمّاء مبهمة، خالية من الملامح التفصيليَّة ومقطوعة الصلة بالحياة وبالناس الحقيقيين. الأدب، وحده، يحاول أنْ يحلّ هذه المعضلة، فيؤنسن أحداث التاريخ، ويبثّ الحياة فيها، ويعيد رسم ملامحها الباهتة والممحوَّة. وكلّ أديب محترف يكون لديه نزوع دائم للتعامل مع أحداث التاريخ مِنْ خلال تفاصيلها الإنسانيَّة وتفاعلاتها الحيَّة.
خطر لي هذا بينما كنّا نمرّ خلال الأسبوع الماضي بذكرى حرب حزيران 1967. لا شكَّ أنَّ تلك الحرب انتهت (أو بالأحرى، ابتدأتْ) بهزيمة عربيَّة كبرى ومدوّية تركتْ آثاراً عميقة في مسيرة التاريخ العربيّ الحديث وحكمتْ مسار التطوّرات السياسيّة والعامَّة في البلاد العربيَّة منذ ذاك وحتَّى وقتٍ قريب. بل إنَّ بعض المحلِّلين السياسيين والمؤرّخين تحدّث عن آثارٍ عالميَّة مهمَّة لتلك الحرب. مثال ذلك، حديث محمَّد حسنين هيكل في كتابه "الزلزال" عن أنَّ هزيمة حزيران العربيَّة كانت أحد العوالم المهمَّة التي أدَّتْ إلى انهيار الاتِّحاد السوفييتيّ في مرحلةٍ لاحقة.
لقد تواصَلَ تفاعل تلك الآثار السلبيَّة العميقة، وخصوصاً في ظلّ الانتكاسات السياسيَّة العربيَّة المتوالية، إلى أنْ تمَّتْ معالجتها بصورة ناجعة وواضحة مِنْ خلال مأثرة صمود المقاومة اللبنانيَّة وبسالتها في التصدّي للعدوان الإسرائيليّ الهمجيّ على لبنان في صيف العام 2006؛ حيث تمكّن المقاومون اللبنانيّون مِنْ كشف حدود وإمكانات القوَّة العسكريَّة الإسرائيليَّة بصورة نهائيَّة ووضعوا دولة العدوّ أمام حالة انسداد تاريخيّ لا خلاص لها منها. ثمَّ تعزَّز هذا الوضع بصمود المقاومة الفلسطينيَّة في غزَّة بعد ذلك. وفي السياق ذاته، أسقطتْ بسالة المقاومة اللبنانيَّة مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، الأميركيّ، الذي كان يسعى لتكريس الهيمنة الأميركيَّة بصورة نهائيَّة على المنطقة، وأعادتْ الوهج والنسغ للكرامة العربيَّة، الأمر الذي فتح الطريق واسعاً لربيع الانتفاضات والثورات العربيَّة الذي نشهده الآن.
وأعود إلى المقاربة الإنسانيَّة التفصيليَّة لحرب حزيران 1967. كنتُ، آنذاك، فتىً في الثانية عشرة مِنْ عمري، وقد ذهبتُ مع جدّي وأبي في الصباح الباكر إلى أرضٍ لنا تقع إلى الشرق مِنْ قرية مليح بعدَّة كيلومترات، حيث بدأ حصاد القمح المزروع فيها، وهناك استمعنا من الراديو إلى خبر اندلاع الحرب. دبَّ الحماس في نفوسنا جميعاً، باستثناء جدّي الذي تعامل مع الخبر بتشكّك وقلق. ورحنا نسمع، طوال النهار، بيانات متتالية عن طائرات العدوّ التي تتساقط، وجنوده الذين يُقتلون ويُجرحون بأعداد كبيرة، والانتصارات التي تحقّقها القوّات العربيَّة على الأرض. وظُهْر ذلك اليوم قال بيان عن سير العمليّات إنَّ قوّاتنا استولت على جبل المكبّر في القدس المحتلّة عام 1948. وسريعاً، كما أذكر، راحت الإذاعة تذيع أغنية حماسيَّة جديدة لا أزال أذكر مِنْ كلماتها: "كبِّر كبِّر.. استعدنا جبل المكبِّر". فبلغ حماسنا عنان السماء.. باستثناء جدّي.
في اليومين التاليين، كانت أخبار الانهيارات تتوالى، وفي اليوم الثالث بدأ تدفّق النازحين (كما أُسْمِي اللاجئون في تلك الحرب) من الضفّة الغربيَّة، وكان لقريتي الصغيرة (مليح) نصيب مرموق منهم. وبدأتْ ملامح الهزيمة تنتشر مِنْ حولنا بكلّ بشاعتها. وبدأ الجنود بالعودة إلى أهاليهم، ومَنْ لم يعودوا راح ذووهم يجدّون بالسؤال عنهم. ومِنْ ضمن الذين تأخّروا في العودة موسى منصور القبيلات. عندما اندلعت الحرب كان موسى في القرية في إجازة يقضيها مع زوجته وطفلتيه ووالدته.. فما أنْ سمع خبر اندلاع الحرب حتَّى قطع إجازته والتحق بكتيبته في منطقة نابلس. أتذكَّر، بعد ذلك، ملامح السنوات الطويلة التي مرَّت على أسرته وهي تنتظر خبراً عنه أو أنْ تُفاجأ به يعود إليها دونما سابق إشعار. وقد استعدتُ المشاعر القويَّة المرتبطة بتلك المرحلة عندما شاهدتُ قبل سنوات قليلة فيلم "الآخرون"، وهو فيلم جميل ومهمّ ومدهش يعبِّر عن فكرةٍ وجوديَّة عميقة، وبطلته الرئيسة نيكول كيدمان التي مثَّلتْ فيه واحداً مِنْ أفضل أدوارها. استعدتُ تلك المشاعر وأنا أتابع بوجه خاصّ مشهد الجنديّ المفقود في الحرب، وقد عاد فجأة وسط ضباب غريب إلى زوجته وطفليه بعدما يئسوا مِنْ عودته وقيل لهم أنَّه قُتِل في الحرب. ولكنّ الجنديّ العائد كان غريباً تماماً وحاضراً غائباً.
كانت ترد أخبار وقصص وإشاعات عن موسى، منها أنَّه اُستُشهد في اليوم الثاني للحرب في معركة وادي التفّاح في نابلس، إلى جانب سليمان عطيَّة الشخانبة، الذي كان ضابطاً شابّاً مِنْ أبناء منطقتي أيضاً وعندما اندلعت الحرب كان يستعدّ للزواج. ولكن ما مِنْ خبر يقينيّ ورد عن موسى. وبينما أنا أتذكّر الآن سنوات الانتظار الطويلة التي عاشتها والدته وزوجته وطفلتاه، أتذكّر في هذا السياق، مثل حلمٍ غامضٍ أو مشهدٍ مبهم وسط الضباب، أنَّ خبراً جاء، ذات مرَّة، لأسرته يفيد أنَّه حيّ وأنَّه أسير لدى العدوّ، فأقامت والدته احتفالاً في بيتها وراحت تغنِّي هي وقريباته كما لو كنّ في عرس. اسم موسى منصور القبيلات موجود منذ سنوات في قائمة الشهداء والمفقودين والأسرى المعلَّقة على باب مجمّع النقابات المهنيَّة بوصفه مفقوداً. في حين سُمِّي أحد شوارع حيّ الجندويل باسمه بوصفه شهيداً. ورغم مرور كلّ تلك السنين الطويلة لا أزال أذكر ملامحه الرئيسة. كان ممتلئ الجسم وذا شاربين معقوفين مِنْ طرفيهما إلى الأعلى. وكان مرحاً جدّاً، فما أنْ يراني مع أبي في شارع القرية الرئيس حتَّى يشرع بممازحتي بمحبَّة طافحة وضحكة مشرقة تملأ وجهه.
إلى جانب موسى وسليمان عطيَّة الشخانبة، أتذكّر شهيداً آخر في تلك الحرب مِنْ منطقتي مِنْ مدينة مادبا، وهو الدكتور نورس اليعقوب. كان نورس طبيباً شابّاً في الجيش واُستُشهد وهو يسعف زملاءه الجنود والضبّاط الجرحى في منطقة الزبابدة. بقيتْ جثّته في الأرض المحتلّة سبعة أشهر ثمَّ اُستُعيدتْ وأُقيمتْ له جنازة مهيبة ودُفن في مادبا. أذكر أنَّ والده لسنوات طويلة بعد ذلك كان يجلس مع المرحوم أحمد العلاويّ أمام دكّان هذا الأخير المقابلة لبيته، ويلعبان طاولة الزهر لساعات طويلة وهما صامتان. كان جدّي صديقاً لأحمد العلاويّ، والد النائب السابق عبد الحفيظ العلاويّ، ولذلك فقد كان يمرّ بتلك الدكّان الصغيرة كلّما ذهب إلى مادبا، وحيث أنَّني كنتُ صديق جدّي الأقرب فقد كان يصطحبني معه إلى أماكن كثيرة ومِنْ ضمنها تلك الدكان.
هؤلاء الشهداء الثلاثة كانوا مِنْ بين العديد من الشهداء، الذين قضوا في تلك الحرب، والمفقودين الذين لم يُعرف مصيرهم؛ فقد أُستُشهد قرابة 700 جندي وضابط من الجيش العربيّ الأردنيّ. وتتَّفق عدَّة مصادر تاريخيَّة وعسكريَّة على أنَّ خسائر العدوّ البشريَّة بلغتْ على الجبهة الأردنيَّة 480 قتيلاً مِنْ مجموع 859 قُتِلوا في تلك الحرب على جميع الجبهات العربيَّة.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال